عندما تتلذذ بالكلمات، وتتبعثر الحروف ضمن صياغات تنقلك من الواقع إلى اللاوعي، وتجد نفسك تنسل إلى شخصيات روائية لتعيش حالاتها بتفاصيلها التي يصعب على أي أحد آخر أن يوصلها لك بهذا القدر من الحنكة والأسلوب الرائع.. ستدرك حينها أنك تقرأ لـ "سامي البدري" الروائي من بلاد الرافدين.. الذي أطلق مؤخراً كتابه الجديد (يونس بحري وموانئ الليل) الصادر عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر.
يونس بحري أو كما لقب “أسطورة الأرض” يمكن أن تطلق عليه العديد من الألقاب والتسميات، فأصبح الكاتب والروائي بعد أن تجاوزت كتبه ومؤلفاته خمسة عشر كتاباً.. منها، “دماء في المغرب العربي” الذي طبع في عام 1955، و “ليالي باريس” الذي صدر عام 1965، ولعل الأشهر له كتاب “هنا برلين – حي العرب” الذي طبع عام 1956 وصدر في ثمانية أجزاء، وكان هذا الكتاب يحتوي على كل ما أذاعه يونس البحري عبر أثير إذاعة برلين العربية، التي تأسست على يده في ربيع عام 1939، وعمل بها بمفرده، حيث كان التوجه دعم الألمان في الحرب العالمية الثانية، والدعوة لتحرير البلاد العربية من الاحتلالين الإنكليزي والفرنسي.. وهذا منحه لقب “الإعلامي” الأشهر في حينها.. حيث كان يبدأ كلامه دائماً بعبارة ((هنا برلين – حي العرب)).
عرف عن البحري ابن عائلة “الجبوري” الذي ولد في مدينة الموصل سنة 1900 أو كما ورد في مذكراته أول القرن العشرين، كثرة ترحاله بين مشرق الأرض ومغربها، وزار الأصقاع ويبدو أنه تجاوز “ابن بطوطة” بذلك.
فذهب إلى الهند وأفغانستان وإيران واليابان والصين وأندونيسيا ثم انتقل إلى أميركا وكندا قاطعاً المحيطات وعبر بعدها إلى أوروبا زائراً ألمانيا وفرنسا وهولندا وبلجيكا وبريطانيا، عداك عن دول شمال أفريقيا وجنوبها، فقطع الصحراء الكبرى مشياً على الأقدام وحده، كما فعلها بتجاوزه نجد والحجاز والربع الخالي وصولاً إلى اليمن.
داهية عصره، ذلك المتمرد على كل شيء والمحب لكل شيء، بليغ في محكاه، واثق بقدراته، ولع بالنساء.. ما دفعه للزواج بما يقارب ثلاثمئة امرأة بين زواج شرعي ومدني، فزرع في كل مدينة نبتة منه.
عمل إمام جامع وخطيب في فرنسا، ومفتي في أندونيسيا، ومراسل صحفي للعديد من الوكالات الإعلامية والصحف، وشغل منصب رئيس تحرير جريدة جاوة.
ذاع صيت يونس البحري في ذاك الحين بين السياسيين والكتّاب والملوك والرؤساء والأدباء والإعلاميين، وتجلى ذلك بتقربه من الملك السعودي عبد العزيز وهتلر وموسوليني وجمال عبد الناصر والملك العراقي غازي. وأثناء زيارته للجزائر نشأت علاقة وطيدة بينه وبين المفكر “مالك بن نبي” الذي كتب عنه بعد ذلك مذكرات “شاهد للقرن” الذي طبع سنة 1984.
وقدمت عنه أطروحة في الأدب لنيل شهادة الماجستير في إحدى جامعات ألمانيا بعنوان (السندباد الحديث) في عام 2016.
ومؤخراً كتبت الروائية “رنا الصيفي” في موجزها عن رواية الكاتب “سامي البدري”..
(ولد كموج البحر وربما من فراغ ولد، وإلى فراغ توجه. هو لم يكن مجرد رجل، بل كان فصل خريف متقلب لا يسمح للحياة بالركود. رجل عاش في كل شيء ومن أجل كل شيء، قدر له أن يترك دمغة على صفحة القرن العشرين لم يتمكن أي رجل آخر من منازعته عليها. إعصاراً عصف بقلوب نسائه الكثيرات، قالب سكر تساقطن عليه واحدة تلو الواحدة).
قضى “أسطورة الأرض” أيامه الأخيرة في بغداد، ومات فيها بمشفى الراهبات عام 1979، وتولت بلدية المدينة آنذاك عملية دفنه في مقبرة الغزالي وعلى نفقتها الخاصة، كونه عاش أيامه الأخيرة فقيراً لا يملك شيء.
لتطوى بذلك صفحة حياة الأديب والصحافي والإعلامي ورجل الدين ورجل السياسة والرحال، التي كانت زاخرة بالعلم والمعرفة والمغامرة.
سيريا برس _ سامر الطه