التفكير الرغبوي هو تفكير الفرد أو المجموعة عبر الأمنيات والخيال؛ بدلاً من التفكير بالأدلة الواقعية والحجج المنطقية؛ فيتعامل مع المحيط به انسجاماً مع رغباته الذاتية، كأنها هي الواقع. وتصرّ ذالأنظمة السياسية الاستبدادية على إشاعة هذا النمط من التفكير لدى مواطنيها، وتهيئة بيئة حاضنة له لسهولة قيادتهم وتوجيههم وزيادة منسوب “شعبويتهم”، ليسيطر على حياتهم العامة والخاصة كي يعيشوا بأوهام القدرة على الفعل، والرغبة بتجاوز الظروف الموضوعية للإنجاز، لإشغالهم والإكثار من خيباتهم.
وقد شكل المشهد السوري في العقد الأخير بيئة خصبة للتفكير الرغبوي من الأفراد والجماعات والدول كذلك، ولعل أحد أبرز الأمثلة “فكرة النصر والانتصار على الآخر” عند كل من السوريات الأربع، التي تتقاسم الجغرافية السورية حالياً.
فالنظام يشيع عبر الجغرافية التي يحكمها فكرة أنه انتصر على المؤامرة وعلى أكثر من 100 دولة، ويبدأ باستعراض سردية طويلة من الأعداء والمهاجمين وأدوات النصر وعلاماته من مثل بقائه في الأمم المتحدة أو إعادة علاقات عدد من الدول معه، أو رغبة شريحة من السوريين بالعودة إلى بلدهم، أو اضطرارهم لاستخراج الأوراق الرسمية من مؤسساته.
وتأمّل المشهد يكشف أن هذا الادعاء ما هو إلا تفكير رغائبي، لا يصمد أمام الأسئلة: على من انتصر؟ وما نتيجة النصر وما ثمنه وكيف انتصر من أسهم بتقسيم سوريا، وجلب كل الاحتلالات إليها؟ وسلمّ البلد وحاضره ومستقبله وثرواته للأجنبي!
هو نجح في البقاء على كرسي الحكم مؤقتاً، لكنه لم ينتصر، نصره الوحيد تمَّ من خلال تدمير سوريا.
نعم! انتصر في معركة التدمير والقتل والإقصاء، وانتصر في أن يكون تصنيف سوريا من أكثر الدول فساداً وقمعاً وجوعاً وتهالكاً وتدميراً.
قسد كانت جزءاً من أداة التنفيذ فحسب وأنها أداة في يد المخططين. وأن من انتصر على داعش هي الإرادة الدولية؛ حين رغبت بذلك
من جهة أخرى، وكي لا يكون الطرف الذي يمكن أن يحدِّد هل انتصر النظام أم لا، سورياً، فيخضع لتأثير التفكير الرغائبي ربما، فإننا نجد أنَّ معظم شعوب العالم ودوله وخبرائه، بعيداً عن الموقف السياسي، يقولون: النظام لم ينتصر، بل دمَّر سوريا وشرد شعبها، ولن تقوم لها قائمة بين الدول المؤثرة لعقود.
في “سوريا الجزيرة والفرات”، تصرّ قسد والكثير من المتحمسين لمشروعها، على تصدير مقولة: إنها انتصرت على داعش و”الجيش الوطني”، وحصلت على ما يشبه الحكم الذاتي. والجميع يعلم، بعيداً عن التفكير الرغائبي، أن قسد كانت جزءاً من أداة التنفيذ فحسب وأنها أداة في يد المخططين. وأن من انتصر على داعش هي الإرادة الدولية؛ حين رغبت بذلك. ومثلما لجأت إيران إلى ميليشيات أفغانية لتحقيق مخططها في سوريا ومساعدة النظام، ولجأت روسيا إلى ميليشيات فاغنر، فإن التحالف الدولي وظف قسد لكي تساعده بالمهمة كونه يحتاج شركاء على الأرض. تؤكد الأدلة والوثائق أن أي تحرك عسكري لـ قسد ضد داعش لا يتم إلا بالتنسيق والموافقة مع التحالف الدولي، ولولا وجودهما لهجمتْ كل من روسيا وإيران والنظام وبقايا داعش على قسد. وهي التي وفقاً لرواية النظام انتهت مهمتها، وقد غض النظر عنها يوم أُسست، بل ساعدها على ذلك؛ كي تقوم بإسكات الكرد، وتشتيت السوريين، وإشغال تركيا، والتخفّف من جزء من الجغرافية السورية ليتفرغ لسواها.
تنتعش ملامح من التفكير الرغبوي فيما يُدعى بفصائل الجيش “الوطني” وعدد ممن يعيشون في الشمال السوري “المحرر” مما يقع تحت السيطرة التركية. السؤال الرئيس: هل هو محرر من النظام أو قسد؟ ويعلم المتابعون أن القرارات الاستراتيجية لفصائل الجيش الوطني تعود إلى الإرادة التركية. ولعل أبرز دليل حاضر الآن هو الحشود على تخوم “تل رفعت”، بانتظار إشارة البدء كما يقولون في تصريحاتهم، وإشارة البدء هي تركية وليست سورية، فعن أي محرَّر يتحدثون وعن أي جيش وطني، قراره ليس بيده؟
هيئة تحرير الشام وأوهام أنها تحكم، وتشكل حكومة بوزراء، وأن العدل ديدنها، وأنها تحارب داعش، وأنها ملاذ المواطنة الصالحة، كذلك جزء من التفكير الرغبوي، لأنه ببساطة لا يمكن للميليشيات والإقصاء والأصولي أن ينتج سوى حكومة بلون واحد لا تقبل الاختلاف. وهم وفقاً للتفكير الرغبوي لمحبيهم على طريق تحرير سوريا كلها، والمعطيات الواقعية تقول إن هذا محض وهم ولا يستند إلى أي دليل، وأنهم أوهى من خيط العنكبوت لولا الظرف الدولي الذي يساعدهم على البقاء.
ينعكس التفكير الرغبوي كذلك على سياسات الدول التي تحضر في الملف السوري، إيران تريد أن تنتصر على إسرائيل والشيطان الأكبر والسنة في سوريا. وها هي تركيا تحاول منع أذى حزب العمال الكردستاني عنها من خلال الجغرافيا السورية فيما هو موجود كذلك في جبالها. وفي الوقت نفسه روسيا تريد أن تكسر هيمنة الأوروبيين من خلال الجغرافيا السورية، فيما تحتفظ أميركا بقواتها شرقي سوريا لتقول للجميع: أنا هنا!
التفكير الرغبوي في سوريا باق ويتمدّد ليصل إلى الأشخاص داخلها وخارجها، التقيتُ قبل شهور في إسطنبول، بإعلامي مخضرم، وإذ به يتحدث مهاجماً عن عدد كبير من المؤسسات، التي يديرها سوريون أو يشكلون أغلب العاملين بها، وتدعهما إحدى الدول العربية، وقد صبَّ ذلك الرجل جام غضبه على تلك المؤسسات ومديريها وداعميها، بحيث إنك يمكن أن تتصور حيت تسمعه أن خراب العالم منبعه تلك المؤسسات! ماهي إلا شهور قليلة وإذ بالرجل نفسه يغدو محللاً رئيسياً عبر شاشة إحدى تلك المؤسسات!
يقال: إن الكثير من علاقات الحب السورية لا تنجح لأنها ضحية تفكير رغبوي، لا يعطي الوقت الكافي لدراسة التفاصيل والظروف بطريقة مفصلة، نتيجة الظرف الصعب للتهجير واللجوء، لذلك عند أول اختبار يتفارق الحبيبان.
ينطلق نيكولاس فان دام في كتابه “تدمير وطن الحرب الأهلية في سوريا” من رؤية مفادها أن تحقيق نصف الأهداف بالسلم أفضل من السعي لتحقيق كل الأهداف بالحرب، تمجيداً لفكرة التفاوض كمنهج حياة، وكذلك قراءة الظروف الموضوعية لطرف الصراع وعدم التفكير بالرغبات والأمنيات، هذا الرأي الدبلوماسي، من الصعب تطبيقه أو الاستجابة له إبّان الثورات، حيث تكون النفوس مستنفرة ولا تقبل بأنصاف الحلول، خاصة في حالة مثل حالة الثورة السورية طبخ فيها كثيرون وجربوا قدراتهم في المكر والتأثير والتلاعب والدهاء وإعطاء الدروس والبيع والشراء ليغدو التفكير الرغبوي جزءاً منها. وقتها لم يقبل أحد بفكرة أن السياسة هي فنُّ الممكن، وأن كون قضيتك عادلة ومحقة لا يعني أن المآل هو النصر بالضرورة.
في الحياة، عندما تكون على حق، ليس بالضرورة أن تكون قادراً على انتزاع حقك، قد يتخاصم لديك كل من التفكير الرغائبي والواقعي، والناجحون المألوفون هم من يوازنون بينهما
أحد جوانب آليات العمل الإداري أنك عندما تريد أن تحقق أهدافاً محدّدة، عليك قبل البدء بالتنفيذ أن تقوم بتحضير الأدوات والبيئة والعنصر البشري والجانب المادي، وإن كانت تلك ليست بيدك أو لا تمتلكها فلا تجعل التفكير الرغبوي يسيطر عليك كي لا تتعثر.
في الحياة، عندما تكون على حق، ليس بالضرورة أن تكون قادراً على انتزاع حقك، قد يتخاصم لديك كل من التفكير الرغائبي والواقعي، والناجحون المألوفون هم من يوازنون بينهما، ناجحو الطفرات أحد نوعين إما هيئوا كل عوامل النجاح وفقاً للتفكير الواقعي، أو كان نجاحهم على شكل طفرة، حضر فيها التفكير الرغائبي أكثر من سواه، وإن كانت معطيات العصر الحالي لم تعد تسمح له بأن يحيا كثيراً.
في قراءة تاريخية، ثمة من يرى أن التفكير الرغبوي كان أكثر حضوراً في عهد الإمبراطوريات وثقافة الغالب والمغلوب حتى النصر، أما في العصر الحالي، في عهد التقنية والإنترنت فلم يعد ملائماً لنمط الحياة، بخاصة على مستوى الجماعات والدول، أما على مستوى الأفراد فمن الصعب التخلص من حضوره في حياتنا، لكن يمكنك أن تجده في مقارنة سريعة بين نمط الشخصية الأوروبية والشخصية الشرقية خاصة إبان تنفيذ العمل، فالشخصية ذات التفكير الواقعي تصرف وقتاً طويلاً للتحضير ودراسة التفاصيل وتهيئة كل ما يلزم، أما النمط الآخر فيسارع للتنفيذ دون تهيئة الأسباب، هذا يبني في بلده، وهذا أسهم بتدمير بلده بطريقة أو بأخرى.
في تفاصيل الحياة يقال: إنَّ المرأة تفكر بطريقة رغبوية أكثر من الرجل، أما في مرحلة اختيار الزوج يقال: إنَّ الرجل يفكر بطريقة رغبوية أكثر من المرأة، التي تنشغل بالتفكير الواقعي! تلك مقولات مبنية على تجارب قد تصحّ هنا لكنها لا تصحّ هناك!
أحمد جاسم الحسين _ تلفزيون سوريا