بعد الاتفاق.. الحرب على إسرائيل حتمية لكنها لن تحصل أبداً!

من مصلحة لبنان أن يقر بأن الاتفاق هو اتفاق. فالغموض تجاه القانون الدولي ليس من مصلحته. ومن مصلحة لبنان تكريسه اتفاقاً دولياً، فمن يقرأ التاريخ يدرك أن الحقوق اللبنانية في مفاوضات من هذا النوع قد تصير في مهب الريح، ما لم توقع وتصادق عليها. بل سيصبح مصير الحقوق اللبنانية مصير الحقوق السورية في وديعة رابين حول الجولان لدى الرئيس الأميركي، الذي صار “بالوعد يا كمون”. أي شيء سوى ذلك نفاق على حساب لبنان.  

ولكن في نهاية الأمر، وبدلاً من منطق الحرب، انتصر في لبنان وإسرائيل منطق الترابح. ورغم كل القرقعة والهياج، انصاع حسن نصرالله لهذا المنطق قائلاً إن “الاتفاق الحدودي مع إسرائيل موقت، حتى تتحرر فلسطين”!! وفضّل نصر الله أن يتخلى عن خطوطه الحمر والصفر، وأن يجير تهديداته لإسرائيل حول حقل كاريش، إلى ما شاء الله في حرب موعودة لتحرير فلسطين لن تحصل. فلو أرادها لفعلها، لكنه لم يفعل. بل هو لا يريد. وكذلك لا تريدها إسرائيل. 

يعتبر بعض الخبراء الدوليين اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين إسرائيل ولبنان إنجازاً فذاً للدبلوماسية الأميركية. وبالفعل قام المبعوث الأميركي بتفصيل الاتفاق، ليستر المسكوت عنه، ولكن ليكشف كل مفاتن “المولود” على حد قول نصر الله. المهم أن يأتي المولود! لا تسألوا ولا تفسّروا.

دفع الشعب اللبناني أغلى الأثمان جراء تبعيته لأجندة لا علاقة لها بحياته ولا بمصلحته الوطنية، بعدما أدى تواطؤ الطبقة السياسية وفسادها لأن يصبح أكثر من 55% من سكانه تحت خط الفقر. في مواجهة ذلك، اختار الشعب اللبناني الترابح والعيش بسلام في مواجهة منطق اللعب بالنار على حافة الهاوية، بل تمكن من فرض الاتفاق على الكبير والصغير، في سوق المزاودات السياسية. 

يعرف اللبنانيون تماماً من الفائز الأكبر في هذا الاتفاق! ليست صواريخ “حزب الله” ولا المسيرات الإيرانية. المنتصر الكبير في الدفاع عن حقوق لبنان هو الشعب اللبناني وذاك الفريق الوطني من المفاوضين اللبنانيين الذين عملوا بزنودهم منفردين في ظروف من أصعب ما مر على البلاد. لقد أنتجوا في النهاية اتفاقاً مفصلاً على القياس اللبناني، لا أكثر ولا أقل. ويشهد بـ”البراعة والمهنية والوطنية العالية” للفريق اللبناني، حتى من المفاوضين الأميركيين والإسرائيليين، ويشهد بها الخبراء التقنيون لتوتال الفرنسية. 

بل إن من مصلحة لبنان الآن، أن يكرّس الاتفاق اتفاقاً. وإلا فما معنى أن يقول الاتفاق إنه “حل دائم ومنصف في ما يتعلق بالنزاع البحري”. وحين سيجتمع الخبراء اللبنانيون والإسرائيليون “في الناقورة في المستقبل القريب”، فإنهم سيعملون على أساس الاتفاق، وعلى حيثيات التطبيق والعقود مع توتال، ومن يأخذ ماذا! ثم كيف ستتصرف توتال في مرحلة التنقيب في الجهة اللبنانية، وما الدفعات التي سيدفعها لبنان (عن طريق توتال) لإسرائيل، جراء تنازلها في حقل قانا الخ.. فحين ننفي حقيقة كون الاتفاق اتفاقاً، يكون لبنان كمن يوقّع على بياض. فتأخذ إسرائيل حصتها، أما الباقي فمتروك لوساطة الوسيط أو لموازين القوى أو .. لتحرير فلسطين. ليصبح كل ذلك هباءً منثوراً في دروج الدبلوماسية الأميركية. 

وفيما يستمر الصراع الفرنسي البريطاني على حقوق الصيد في المانش منذ عقود من دون حل، نلاحظ أن الاتفاق اللبناني الإسرائيلي الأعقد والأهم في حيثياته التقنية والسياسية، قد نجح. فسبحان الله، حين تصطف النجوم الإقليمية والدولية، ويضطر السياسيون لفصل القول، فإنهم لا يستخيرون، بل إنهم يتكيفون، ويوقعون. بل يعمل السياسيون الأشاوس، على تحويل التفافهم نصراً مؤزراً. 

فهذا الاتفاق يعكس الخصائص العضوية للميلودراما السياسية في الشرق الأوسط. إنها الميلودراما ذاتها، بالنسبة إلى لابيد الذي يطفو على قشة، فوق بحر الصراعات الأبدية والمملة للسياسة الإسرائيلية. ويمكن لاتفاق كهذا أن يقطع الطريق على نتنياهو منافسه العنيد.

وفيما تشغل إسرائيل حقلين كبيرين لاستثمار الغاز أهم بكثير من حقل كاريش، فإنها تجد لها مصلحة رئيسية في الاتفاق لأسباب سياسية، إذ يتحدث رئيس الشاباك رونين بار عن أن الاتفاق “يخلق شرخاً بين إيران وحزب الله”، الأمر الذي يفتح الباب أمام تغيير ديناميكيات الصراع في لبنان. وهذا ما يعوّل عليه بايدن بقوة. وهي الميلودراما نفسها بالنسبة إلى حلفاء الرئيس عون الراحل قريباً من قصر بعبدا، فقد يمدد الاتفاق من صلاحية عمرهم على الرف السياسي. أما بالنسبة لنصر الله فالأمر مختلف. 

نظرياً، يستطيع نصر الله أن يدّعي أنه لولا رفعه نبرته وإرساله المسيّرات فوق كاريش، لما أمكن تحقيق الاتفاق بهذه الشروط. لكنه عملياً لا يستطيع أن ينكر أن الاتفاق يفتح باب ترابح بين البلدين مشتركاً، طويلاً وعريضاً، يديره “الشيطان الأكبر”. بل لم يوافق نصر الله على الاتفاق إلا بالخوف من انفجار غضب المجتمع اللبناني، حتى في الضاحية.فـ”أخوك مكره لا بطل”، لا بسبب التهديدات الأميركية، بل لأن نصر الله لا يقدر أبداً على الحرب، ولا ينويها، وليس بوسعه حتى، أن يواجه الشعب اللبناني في حال إفشاله الاتفاق بحرب مغامرة. ثم إن الحزب، بسبب المشكلات المالية الداخلية، والتحديات داخل قوته القتالية، والهجمات الإسرائيلية المستمرة، يدرك جيداً أن حرباً أخرى، ستقلب في ساعات الوضع داخل لبنان في غير مصلحته. 

لكن فيما تكافلت منظومة الفساد في لبنان على تمرير الاتفاق، فإنها لم تفعل ذلك إلا بعدما جفت الدماء في شرايين الاقتصاد، ولم يعد للمافيات أمل في ما تشفطه، إلا الغاز. وفي ذلك، تأمل أن تعود إلى نهبها تحت حماية “سلاح المقاومة”. وهنا ستكون العبرة. 

العبرة كيف ستضمن الولايات المتحدة التزامها لإسرائيل، ألا تذهب عائدات الغاز اللبناني إلى “حزب الله”؟ فقطاع الطاقة في لبنان، كما هو معلوم، من أكثر القطاعات فساداً وفشلاً. وسيكون من أهم شروط حصول لبنان على أي عائدات من هذا الاتفاق، إصلاح النظام المالي وتحقيق مستوى عالٍ من الشفافية، في كل المرافق، وبحسب شروط صندوق النقد الدولي. سيتطلب ذلك من الدولة الراعية للاتفاق، متابعة الموازنة والإنفاق اللبناني، وسيتطلب تغييرات كبيرة في بنية الإدارة المالية بما يحقق بالفعل “شروط الشفافية الكاملة”. 

بل سيكون من أهم منجزات الاتفاق بالنسبة إلى الشعب اللبناني فرض الشفافية الاقتصادية، وليس مجرد عائدات الغاز فحسب. فتجفيف مصادر دخل المافيات وتحويله إلى الخزينة اللبنانية سيمكّن اللبنانيين من جعل الاتفاق جسراً وأداة حادة، لخلاصه السياسي. 

سمير التقي _ النهار العربي

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

آخر الأخبار

خدمات المساعدة القانونية المجانية للاجئين السوريين في تركيا

غصون أبوالذهب _ syria press_ أنباء سوريا الجهل بالحقوق القانونية للاجئين السوريين في تركيا يقف حجر عثرة أمام ممارسة حقهم بالوصول إلى العدالة، ويمنعهم...
منظمة INGEV

واقع دعم المشاريع النسائية الصغيرة في مدينة شانلي أورفا

غصون أبوالذهب _ syria press_ أنباء سوريا تدعم منظمات المجتمع المدني المتخصصة في التنمية وريادة الأعمال، المشاريع الاقتصادية للاجئات السوريات في مدينة شانلي أورفا، بهدف...
مركز الأمل لمكافحة السرطان

خدمات دور ضيافة مرضى السرطان القادمين من سوريا بين الواقع والمأمول 

غصون أبوالذهب _ syria press_ أنباء سوريا تستقبل دور الإيواء المعدودة ومحدودة الإمكانيات في تركيا، مرضى السرطان السوريين عند تحويلهم من الشمال السوري حسب طاقتها...

سوريات إلى الدعارة في العراق..ضحايا ميليشيات عراقية

“يضربني زوجي كل يوم، ويصطحبني مُكرهةً لممارسة الجنس مع أشخاص في الفنادق والبيوت، ثم يعود بي إلى البيت ليفعل بدوره الأمر نفسه بعد ضربي...

الجنس مقابل النجاح في جامعة تشرين

تحقيق يستقصي الابتزاز الجنسي الذي تتعرض له الطالبات في جامعة تشرين من الكوادر التدريسية ليحصلن على درجات النجاح، ويرصد الفساد الإداري عبر مقابلات مع...

الأكثر قراءة