لديّ شهوة وشغف للكتابة عن أشواقي الصغيرة، وهذه ليست باستفزاز وفجاجة ما يفعله الفسابكة في التذكر والتأوه، وانتقاء العبارات المكررة والمائعة، وهكذا أجرب بصوت عالٍ ويد ليست مرتجفة أن أخرج من فوضى أسبوع حافل بالنحيب والصراخ والتخوين والخسارات التي ليس أعظمها خسارة برشلونة المذلة في الدوري الأوروبي على أرضه، وخذلانه ببيع تذاكر المبارة لجمهور الفريق الألماني كما لو أن وطناً قد تم بيعه فسقط.. وليس أقلها طلاق سلاف فواخرجي من بعلها وائل رمضان.
ألم يكن جميلاً ذلك الفتى الذي كنته.. مهووساً بمجلة الشبكة وأخبار أهل الفن والسياسة، ومدهوشاً كيف لهؤلاء المصورين أن يطاردوا الأمير تشارلز وزوجته الشابة ديانا الحامل في شهرها السادس إلى حيث حاولا الاختباء في جزيرة نائية دون جدوى، وتفتح فمك وتصرخ يا لمتعة هؤلاء المجانين.. ومن ثم منتظراً صبوراً لاستطلاع مجلة العربي الشهري حيث متعة أن تزور بلداناً ساحرة من على سريرك المتهالك، وهذا قد يتخلله بعض الخراب الروحي الذي قد تحدثه مجلة الصين الحديثة أو صور إنجازات الرئيس الألماني الشرقي إريش هونيكر، ولكن هامش المتعة الأكبر أن تستطيع وسط دمشق حضور فيلم دون حذف بعض مشاهده كـ (سيدة الأقمار السوداء) أو (ذئاب لا تأكل اللحم).
يبدأ الرجل بالحديث عن الغلاء وقلة الحيلة والعمل بدوامين وكيف سرقوا حديد وإسمنت المدينة الرياضية في اللاذقية التي استضافت دورة البحر الأبيض المتوسط حتى يعود صوت العقل ليخرج من ورطة اللسان: لولا تدخل السيد الرئيس
أن تنام في البرامكة وسط دمشق بعد رحلة طويلة من معسكر التدريب الجامعي، ومن ثم تبحث بإصرار عن بائع الكعك والحليب الساخن في ليلة باردة، وتستمع إلى أحاديث الناس عام 1988 حول بخار كؤوس الحليب قبل شروق الشمس بقليل حيث للحيطان آذان فما أن يبدأ الرجل بالحديث عن الغلاء وقلة الحيلة والعمل بدوامين وكيف سرقوا حديد وإسمنت المدينة الرياضية في اللاذقية التي استضافت دورة البحر الأبيض المتوسط حتى يعود صوت العقل ليخرج من ورطة اللسان: لولا تدخل السيد الرئيس.. أما أنت فتكتشف أنك لا تحب الحليب لكنك تحب طقسه.
لم يكن سهلاً ذلك المشوار اليومي بالميكرو باص القديم وأجرة الوصول إلى كلية الآداب بجامعة دمشق لا تتجاوز ليرة ونصف – قبل أن تدخل السرافيس حياة السوريين كصفقة كبيرة ساهمت في بيع أراضيهم وذهب نسائهم من أجل شراء ما صار بعد ذلك يسمى بالجرادين نظراً لكثرتها وسيطرتها على طرق البلاد- ولكن متعته أي المشوار اليومي تنتهي عند السادسة مساء حيث لا يمكنك أن تعود إلى بيتك في ريف العاصمة إلا بـ 25 ليرة تدفعها ثمن أجرة التكسي وأنت بالتأكيد لا تملكها حيث النتيجة ليلة في المدينة الجامعية أو عند صديق سوء.
عشرة أيام هزت العالم لجون ريد من أهم الأعمال التي جسدتها السينما، وكان على جمهور الطلبة من متابعي أسابيع النادي السينمائي أن يجلسوا على الأرض بعد امتلاء مقاعد صالة كلية الهندسة عن بكرة أبيها، وهذا الطقس الأسبوعي المحشو بالنقاشات الصارخة والندوات الساخنة يخبو عندما تصحو صباحاً على خبر اختفاء أحدهم.. الحيطان لها آذان أو عند بيت خالته (كم يوم وبيرجع)، ومع كل هذا الفزع يمكن أن تكون حوادث كهذه في خانة الأشواق القاسية.
كان البوح باجتراح كلمات جديدة تليق بآذان من يسمعوها وليس (قص لصق) من مواقع التواصل..
ليست أكثر من محاولة بائسة للخروج من فجائع سنوات الموت باستذكار فجائع سنوات القهر، ولكن الفارق بين هذه وتلك أن الأخيرة كانت تضج بالأهل والأصدقاء، ولهذا كان لحكايات الأسى طعم يوزع عليهم بالتساوي، وأما الألم فتبتلعه المواساة التي تأتي من كل مكان.. وكان البوح باجتراح كلمات جديدة تليق بآذان من يسمعوها وليس (قص لصق) من مواقع التواصل.. هي هكذا كانت سنوات خائبة وقاسية لكنها لا تخلو من بعض ما يمكن أن تشتاقه بعد حين.
عبد الرزاق دياب _ تلفزيون سوريا