تظنون أنكم تعرفونني جيداً، أنا الوحش حفيد الوحش. حسناً، سأبرهن لكم على خطأ ظنكم، هل لاحظتم أنني قلت “الوحش حفيد الوحش”، ولم أقل “الوحش ابن الوحش”؟ أتوقع أن ذلك مرّ عليكم بحكم العادة، فطوال ثلاثين عاماً من تعايشنا الإجباري اعتدتم على عدم ذكر أبي، واعتدتم في السنوات العشر الأولى على اسم جدي الذي اتخذته لأكنى به قبل أن أستخدم اسم ابني البكر.
دعكم من تلك الترهات التي تتحدث عن شعوري بالعار من أبي لأنه لم يكن وطنياً كما يجب، فهو لم يفلح في أن يكون عميلاً أيضاً. على أية حال، يضحكني هذا الكلام عن الوطنية، وأتوقع أنه يضحككم أيضاً.
لو بُعث جدي حياً الآن لربما ضحك أيضاً غبطةً لأنني جعلت سيرته على الألسن، ثم استدرك ضحكته بالغضب لأنني صوّرته على مقاس رغباتي. ربما سيغضب ولن يفهم لماذا تحدثت عنه إلى الغرباء، فهو بالتأكيد لم يتخيل يوماً أن يكون له حفيد يجلس لساعات طوال وهو يقص الأكاذيب على مسمع إنكليزي اسمه باتريك. على الأرجح، لن يستوعب بعقله البسيط أنني جعلت منه شخصاً آخر، لن يدرك لماذا جعلت منه هو المستوحش، المنعزل الذي ينفر من الآخرين، وحشاً بمعنى البطل.
هل فهمتم أنتم أيضاً لماذا أنا ابن جدي؟ سأقولها لكم بوضوح أكبر: من الصعب أن تخلق أباً على مزاجك، فهو قريب جداً في الزمن ويصعب تحريفه، بينما من السهل أن تخترع جداً على هواك، إذ لا أحد من أقرانك يعرف عنه شيئاً، وأنت أيضاً ربما لا تعرف سوى ما اخترعته، وربما تصدق نفسك.
كنت أسترسل على هواي وأنا أحكي لباتريك، وتختلط في رأسي الأحداث الحقيقية مع تلك التي اخترعتها تحضيراً للّقاء، أو تلك التي كنت أخترعها للتو. لا متعة تفوق متعة كتابة التاريخ، دعكم من ذلك الكلام عن أنني مولع بقراءة التاريخ، فقد صنعت من التاريخ أكثر مما قرأت عنه. وعندما كنت أتحدث لباتريك كي يدوّن ما أقول كنت أشعر بسطوة مَن يخلق نفسه وسيرة عائلته، بل سيرة رفاقه وخصومه الذين إما أنهم ماتوا أو أنهم في السجن أو في المنافي.
أغلب الظن أنه عانى من استرسالي في الكلام، لأن ذلك كان يستغرق ساعات، فكانت جلساتنا تطول وأتوقع أن المسكين كان يريد الذهاب إلى الحمام لكنه يخجل من طلب ذلك، أو ربما يقول لنفسه أنني سأتوقف عند الحادثة التي أسردها فلا أقفز منها إلى أخرى. من جهتي، لم أكن وأنا مسترسل في الكلام أشعر برغبة في التبول، كأن مثانتي كانت تتوقف عن العمل لتصغي إليّ! أحياناً، كانت هذه الرغبة تأتيني بعد انتهاء الجلسة وذهابه، فأذهب لأتبول مطوّلاً وبغزارة.
لا أخفي عنكم سروري بمثانتي التي تصمد لساعات طويلة، بفضلها سيتحدث هنري عني كصاحب دبلوماسية ملء المثانة. فقط لو لم تكن اللئيمة تنتقم مني ليلاً! لا، لا علاقة للأمر بسرطان البروستات، هذا سيأتي لاحقاً. عندما أعود إلى الوراء أتذكر ذلك المنام الفظيع الشبيه بالكابوس، كانت أرى فيه ملايين الأيدي التي تقترب من عنقي لتشنقني، كنت مرعوباً منها وفي الوقت نفسه أشعر برغبة هائلة في التبول.
لحسن الحظ أنني أفقت وهرعت فوراً إلى الحمام، لكن خوفي من تلك الأيدي لم يذهب، وبسبب منه مررت لأطمئن على أولادي النائمين، قبل العودة إلى فراشي لأرى أمهم مستغرقة أيضاً في نوم عميق.
في اليوم التالي تكرر الأمر ذاته، جربتُ معاندتها ولم أتجاوب مع إنذارها، قلت لنفسي أنني أستطيع التحمل، كنت بحاجة شديدة إلى معاودة النوم. ألا يحصل هذا معكم أيضاً، فتنامون حقاً لبعض الوقت، أو حتى لوقت أطول مما توقعتم، قبل عودة ذلك الإنذار؟ لم يحدث هذا لي، وبالكاد تماسكت حتى وصلت إلى الحمام، بل صار لدي أيضاً خوف من التبول اللاإرادي أثناء النوم، ليتكرر ذهابي إلى الحمام من دون حاجة أحياناً.
أتت نتيجة تحاليلي الطبية الروتينية، وكانت بمجملها ممتازة. لم أكن أنتظرها لأعرف أن الأمر لا يتعلق بمرض ما، فما يوقظني مراراً كل ليلة ليست الرغبة الحقيقية في التبول، إنه الخوف. هو خوفي منكم، أو خوفكم مني، لا فرق. ربما آن الأوان أخيراً لأحدّثكم عن الخوف.
لقد تحدثتم كثيراً جداً عن خوفكم مني، لكننا كنا معاً أبناء مملكة الخوف، أليست هذه هي التسمية التي يطلقها البعض على الأرض التي تقاسمنا العيش فيها؟ لاحظوا أنني لم أقل “بلدنا الذي عشنا فيه”، ولم أقل “بلدي”، فأنا إذ أخلو إلى نفسي لا أحب هذه التعابير الطنانة التي تصفقون لها عندما أخطب بكم. بعد موتي، وبعدما هدأت قليلاً نفسي القلقة المضطربة، فكرتُ ملياً في أننا لم نفعل شيئاً طوال ثلاثين عاماً سوى أننا كنا نتخاوف. لقد وجدتها أخيراً! هذا هو التعبير المناسب، كنا نتخاوف.
لكم النهار لتخافوا مني وأنتم بين الناس في أشغالكم، وربما لكم فوقه خوفكم في السهرات، إذا لم يكن الحاضرون موثوقين جداً. لكم خوفكم من زلة لسان، من تعبير طائش عن عدم الرضا، أو من تلميح مقصود. لكم خشيتكم من أن تحيدوا عن خوفكم فيكون العقاب بالمرصاد. لكنكم إذ تخلون إلى أنفسكم يزول الخوف، وقد تنامون بعمق شديد لا تؤرقكم فيه صورتي، ولا تلك الأيدي التي تصنع أنشوطة في أحلامي.
أما أنا إذ أخلو ليلاً إلى نفسي فإني أراها ملأى بخوفكم، خوفكم الذي يفسد عليّ مناماتي ونومي، الخوف الذي باطنه نقمة وحقد. في ساعات متأخرة من الليل، أجلس في الحمام وأنا أفكر بذلك، أفكر كيف سأحمي نفسي من خوفكم وحقدكم. في الصباح أستدعي مساعدي لشؤون المخابرات، أسأله عما إذا كان كل شيء على ما يرام؟ يطمئنني، لكنني لا أطمئن، ولا أثق به بما يكفي. كأنه اعتاد على قراءة أفكاري، يقترح أن ننشئ جهازاً جديداً للمخابرات، فأوافق فوراً. هذا هو الفرق بيني أو بينكم، أنتم تدارون خوفكم بالصمت، وبالمزيد منه، بينما أداري خوفي بأجهزة المخابرات، ثم بالمزيد منها.
تتحدثون عن تكاثر أجهزة المخابرات وتغوّلها، ولا تعرفون أنها أقل مما يقتضيه خوف وحش مثلي. مرات، في ليالي القلق الكثيرة جداً، يخطر لي أن أحرق البلد كله، يخطر لي أن لا شيء أقل من هذا يبرّد نفسي المضطربة، وأنتبه إلى أن كلمة بلد تأتي إلى ذهني فقط مع هذا الخاطر.
لا تظنوا أن كثرة المنافقين حولي ترضيني، فأنا أعرف دوافعهم جيداً، وأعرف أن لا أحد منهم يحبني حقاً. إنهم مثل الجميع يخافون مني، وأنا أبادلهم الاحتقار، أحتقرهم لأنهم يظنون أنفسهم أذكياء بما يكفي لينطلي نفاقهم عليّ. أعلم أنهم يفعلون ذلك بدافع الخوف والجشع معاً، وأعرف جيداً ما في هذا المزيج من وضاعة لا يؤتمن جانبها.
لم يكن هناك من شفاء لي، فقد كان الدواء الذي لا وجود لغيره يأتي بمزيد من الداء. لم أعرف السكينة حتى متّ، وارتحت من تلك الأيدي التي تقترب لكنها لا تطبق على عنقي. وأنا حيّ كنت أظن أنني أصنع الوحش، وعندما متّ أدركت كم كنت مخطئاً. أتريدون معرفة ما الذي يصنع الوحش؟ هاكم الإجابة من وحش عتيق ميت: إنه الخوف من ضحاياه. خذوها مني أيضاً: لا تنتظروا الحكمة، أية حكمة، من وحش إلا وهو ميت.
عمر قدور _ الناس نيوز