لا يتطلب الأمر قدراً كبيراً من الخيال ، كي نتصور مقدار الضغط ، الذي تعرض له رأس النظام بدمشق، خلال استقباله لـ رستم قاسمي، وزير الطرق والإسكان الإيراني. فالأخير، ليس من التكنوقراط، بل هو جنرال محسوب على الدائرة الضيقة التي تدير الحرس الثوري، المؤسسة اللصيقة بالمرشد علي خامنئي، في إدارة إيران.
زار قاسمي دمشق، في مهمة محددة. وهي نقل النفوذ الاقتصادي الإيراني إلى مستوى أرفع، يستند إلى اتفاقيات قانونية مديدة مع حكومة النظام، على غرار تلك التي حصل عليها الروس في أكثر من قطاع اقتصادي.
والملفات التي تم نقاشها، شائكة في معظمها، وسبق أن تعثرت مراراً، وتشمل ميناء اللاذقية، والمشغل الثالث للخليوي، ناهيك عن آبار نفط وغاز، يراهن قاسمي على اقتناصها في سوريا، وهو المهندس المتخصص في إدارة منشآتها، والوزير السابق في هذا القطاع.
وتؤشر مراجعة مستفيضة لسيرة رستم قاسمي، إلى مقدار الأهمية التي توليها النخبة الحاكمة في طهران، لهدف تعزيز النفوذ الاقتصادي الإيراني في سوريا. فالرجل الذي أصبح بحكم موقعه الوزاري، رئيساً للجانب الإيراني في اللجنة الاقتصادية السورية – الإيرانية المشتركة، سبق أن صنفته مجلة “فوربس”، عام 2012، ضمن قائمة أقوى رجال الشرق الأوسط، نظراً لدوره في بيع النفط الإيراني في السوق السوداء، رغم العقوبات الغربية على إيران، في ذلك التاريخ. ونظراً لدوره أيضاً، في قيادة مقر “خاتم الأنبياء”، الذراع الاقتصادي للحرس الثوري.
وتكشف وثائق مسرّبة، نشرتها مجموعة الهاكرز الإيرانية المعارضة “تبندغان”، في كانون الأول/ديسمبر الفائت، عن طبيعة الجدل داخل النخبة الحاكمة في طهران، حيال مسؤولية الفشل في اقتناص فرص اقتصادية مديدة في سوريا، وعن الخطط التي كان يتم العمل على بلورتها في العاصمة الإيرانية، لمعالجة هذا “الفشل”.
إحدى تلك الوثائق، تعود إلى صيف العام 2018، وتكشف كيف أن رستم قاسمي، كان حينها ضمن ثلة من المسؤولين الإيرانيين، في نقاشٍ انتهى إلى الاتفاق على توكيل الحرس الثوري بمهمة إدارة المصالح الاقتصادية الإيرانية في سوريا. وهو التوكيل الذي دخل حيز التنفيذ مع وصول إبراهيم رئيسي، إلى سدة الرئاسة الإيرانية، في منتصف العام الفائت.
وأهم ما تكشفه الوثيقة المشار إليها، تلك الموارد التي أرادت النخبة الحاكمة الإيرانية الوصول إليها في سوريا. حيث تم ذكر الموانئ، والمشغل الثالث للخليوي، وحقول النفط، وأراضٍ زراعية. وأشارت النقاشات إلى أن بعض تلك الموارد “مجدولة” أو “جاهزة للتسليم”، في إشارة إلى موافقة بشار الأسد على منحها للإيرانيين. ووفق الوثيقة المسرّبة، خلصت النقاشات إلى ضرورة توقيع اتفاقية قانونية دولية، مع حكومة النظام السوري، تضمن المكاسب الاقتصادية الإيرانية في سوريا.
وهكذا، ومنذ أكثر من ثلاث سنوات، بدأت استراتيجية إيران الاقتصادية تتبلور ببطء في سوريا. ومفادها الانتقال من التغلغل الاقتصادي غير المشروع، وغير العلني، من قبيل، زراعة وصناعة وتجارة المخدرات، واختراق ميناء اللاذقية واستخدامه لتهريب المخدرات والأسلحة، إلى تغلغل اقتصادي رسمي، موقّعٍ عليه في اتفاقيات مديدة، مع حكومة النظام السوري. وهي المهمة التي سيعمل عليها رستم قاسمي، في الفترة المقبلة.
وبناء على ما سبق، يمكن لنا تصوّر أي الملفات تلك التي كانت شائكة في لقاء الأسد – قاسمي. وأيها كان التفاوض بخصوصه يسيراً. فمثلاً، من المرتقب أن يمنح الأسد امتياز الربط السككي مع العراق، للإيرانيين، بسهولة. لكن، سيبقى التحدي الأمني كامناً في مواجهة هذا الطموح الإيراني. إلى جانب تحدّي دخول الصين على الخط.
فالربط السككي بين إيران والعراق وسوريا، وصولاً إلى المتوسط، والذي يتيح لإيران أن تكون جزءاً فعّالاً من مشروع “الحزام والطريق” الصيني، يواجه عقبات أمنية واستراتيجية نوعية في سوريا. فهناك طريقان لهذا الربط السككي في سوريا. أحدهما يمرّ من “الجزيرة السورية”، التي تخضع لنفوذ أمريكي وروسي، يعرقل أي طموح إيراني، هناك. والطريق الثاني يمرّ عبر البادية السورية، التي تنشط فيها خلايا تنظيم “الدولة الإسلامية” بصورة تجعل من غير المجدي الرهان على المنطقة لتكون ممراً لوجستياً للبضائع القادمة من الصين.
وفي هذه الأثناء، تدخل الصين على الخط. إذ أُعلن في يوم زيارة قاسمي إلى دمشق، عن توقيع حكومة النظام مذكرة اقتصادية مع الصين، تجعل سوريا، نظرياً، ضمن مبادرة “الحزام والطريق”. الأمر الذي يطرح تساؤلاً مفاده: إلى من ستؤول مشاريع إعادة تأهيل البنية التحتية البرية –الطرقية والسككية- في سوريا، تمهيداً لجعلها ممراً فعّالاً ضمن مبادرة “الحزام والطريق”؟ إلى الصين أم إلى إيران؟ وإن كان من المستبعد أن تتنافس بكين مع طهران على هذا المكسب ضئيل الجدوى، مقابل أهمية إيران الاستراتيجية بالنسبة للاقتصاد الصيني. لذا من المرجح أن يؤول هذا المكسب الاقتصادي للإيرانيين.
إلا أن الملفين الأكثر تعقيداً، اللذين لا بد أن مناقشات الأسد مع قاسمي، قد تطرقت إليهما، يتعلقان بميناء اللاذقية، والمشغل الثالث للخليوي. فالميناء الذي بات نفوذ الإيرانيين فيه، خطاً أحمر إسرائيلياً، قد يخرجه من الخدمة مراراً وتكراراً، على غرار ما حدث بعد الضربة الثانية له، سيكون موضع تمنع الأسد، على الأرجح. وهو ما قد ينطبق، بدرجة أقل، على ملف المشغل الثالث للخليوي، الذي أنهت حكومة النظام مسودة الترخيص “الإفرادي” الخاصة به، قبل أيام فقط.
وحتى الآن، يبقى مصير هذا المشغّل، لغزاً. إذ، رسمياً، لا يزال الترخيص النهائي، لم يصدر باسم أي مشغّل. ومن المفهوم، لماذا يعمل نظام الأسد على التعمية في هذا الملف. فالأسد يريد ” الاتصالات التي تبيض ذهباً”، لنفسه. فيما يريد الإيرانيون مشاركته فيها. فشركة “وفا تيليكوم”، التي قِيل إنها ستحظى بالترخيص النهائي، يقودها مقرّبون من الأسد وزوجته. لكن من المحتمل بشدة، أن يتيح الأسد دوراً للإيرانيين بالشراكة معه، في هذا القطاع المدرّ للربح، كحلٍ وسطٍ، بعد أن أجهض مساعيهم لاقتناص المشغل الثالث بكامله لصالحهم، منذ سنتين.
وأياً كانت حصيلة المفاوضات التي جرت في دمشق، خلال اليومين الماضيين، بين رستم قاسمي، وبين مسؤولي النظام، وفي مقدمتهم، الأسد، فإن طهران ستعمل بشكل حثيث في الفترة المقبلة، لنقل نفوذها الاقتصادي في سوريا إلى حالة قانونية علنية. وفيما يُبدي مسؤولون إسرائيليون ارتياحهم لتقارب بعض دول الخليج مع الأسد، على أمل أن يبعده ذلك عن طهران، تراهن الأخيرة على ترسيخ نفوذها بصورة أكثر استدامة، وبتوقيع الأسد ذاته.
إياد الجعفري _ المدن