كثيراً ما يضطر السياسيون للكذب، سواء كان ذلك بدافع الحفاظ على مناصبهم ومكتسباتهم الخاصة، أو للمناورة في مسائل تخص بلدانهم ومصالح تلك البلدان، ولكنهم يحرصون عادة على انتقاء كذبهم بشكل ينسجم مع منطق ما، ويبحثون عن ذرائع تجعل من كذبهم أمراً قابلاً للتصديق، على الأقل من قبل أتباعهم.
ذلك نوع من الأداء الدبلوماسي المتعارف عليه دولياً، وهو كذب اضطر إلى ممارسته أكثر السياسيين عبر التاريخ، كما أن السياسيين يكذبون في مكان ويصدقون بغيره، إلا النظام السوري والناطقين باسمه، فهؤلاء لا يعرفون من السياسة إلا الكذب، كذب على الخصوم والأتباع وعلى أنفسهم أيضاً، كذب في كل التفاصيل، وفي كل الأوقات، كذب بلا سقف وبلا حدود، حيث لا يملك هذا النظام ما يعلنه بصراحة وصدق على جمهوره أو على العالم على حد سواء..
غير أن المختلف لدى النظام هو مستوى الصفاقة التي يمارس بها أكاذيبه ويروج لها، فهو من ناحية لا يخجل ولا يمتنع عن مواصلة الكذب حتى لو كانت أكاذيبه مفضوحة وبلا فائدة، وهو -من ناحية أخرى-، يريد أن يحول كذبه إلى حقائق بقوة السلاح في الداخل، وبقوة الحلفاء الذين يتشاركون معه ذات مدرسة الكذب على المستوى الدولي..
الجعفري يبتكر فلسفة جديدة أيضاً في مجال العمل الدبلوماسي تتجلى أهم ملامحها في حديثه عن الردود “السرية” على الاعتداءات الإسرائيلية
في هذا الإطار، فجّر نائب وزير خارجية النظام بشار الجعفري مفاجأة من العيار الثقيل في أثناء الحوار الذي أجرته معه قناة الميادين منذ يومين، مفاجأة أعادت إلى الواجهة فحوى نظريات سهيل الحسن التي أسست لفلسفة جديدة في العلوم العسكرية، وها هو الجعفري يبتكر فلسفة جديدة أيضاً في مجال العمل الدبلوماسي تتجلى أهم ملامحها في حديثه عن الردود “السرية” على الاعتداءات الإسرائيلية.
إنها ردود غير معلنة وحسب، أما ما هي تلك الردود، ما طبيعتها، ما شكلها وما تأثيرها وأين ومتى حدثت، فذلك ما لم يبح به الجعفري للحفاظ على تلك السرية على ما يبدو، بل يكتفي الجعفري بالقول: هناك الكثير من الردود التي تحدث ولا يتم التصريح عنها.
ردود قوية وسرية كتلك التي يتحدث عنها الجعفري تثير ولا شك فضول أي متابع لمعرفة تفاصيلها، غير أن مذيعة قناة الميادين، -والتي لم تترك تفصيلاً يتماهى مع رواية محور الممانعة إلا وأفاضت في السؤال عنه- لم تجد في ذلك ما يثير الفضول فلم تطلب من ضيفها توضيحات عن تلك الردود، توضيحات يمكن أن تكون حجة بيد الموالين على الأقل..
لماذا يتم الرد بالسر على غارات إسرائيل العلنية؟ ذلك سؤال سيحير كل السياسيين لا شك، فمن المفترض أن يكون المعتدي هو من يحرص على السرية، تجنباً لإدانات دولية أو إحراج قد يقع فيه، أما الرد على اعتداءات الآخرين فهو عمل وطني سيادي لا مبرر لإخفائه، ولا سيما أن النظام عودنا على التفاخر ببطولاته وانتصاراته كلما قتل المزيد من السوريين، فيما يحجب أخبار الرد على إسرائيل تحديداً، أي أنه يحجب الأخبار التي تدعو للفخر والتباهي -إن كانت حقيقية-.
يصر الجعفري على أن يجنبنا مهمة تكذيبه ويتطوع لتكذيب نفسه بنفسه ودحض ادعاءاته تلقائياً، ففي ذات التصريحات يقول الجعفري إن إسرائيل عدو شرس ووقح وتريد استفزازنا وجرنا إلى فخ المواجهة، ويؤكد أن سوريا لن تنجر إلى ذلك الفخ، أي أنها لن ترد على إسرائيل، فينفي حدوث تلك الردود التي صرح عنها منذ قليل والتي “لا يتم التصريح عنها” حسب زعمه، ويطمئن إسرائيل المطمئنة أصلاً والمتأكدة من عجز النظام على الرد، بل ومن موافقته على تلك الضربات التي كثيراً ما حدثت قبل “المؤامرة الكونية” على سوريا وقبل وجود “الإرهاب”، ولم يحرك النظام ساكناً، بل كان يكتفي باستمرار في الاحتفاظ بحق الرد كما هو معروف للجميع.
غالباً ما يناقض السياسيون أنفسهم حينما تفصل مدة كبيرة بين تصريح وآخر، إلا أن الجعفري ينسف حججه في ذات التصريحات التي يدلي بها، وفي هذا السياق يتحول الجعفري من مجرد كاذب إلى إمعة سياسية لا تدرك ما تقول، فهو يؤكد أن روسيا طمأنت الأسد أنها ضد الاعتداءات الإسرائيلية على سوريا، فاطمأن الأسد وانتهى الموضوع، ولكنه لا يكتفي بذلك بل يعود ليقر بأن إسرائيل ليست أولوية، في ذات الوقت الذي يحمل فيه إسرائيل وزر المؤامرة الكونية ضد سوريا، أما ما هي أولويات النظام فقد حددها الجعفري بالضبط في ثلاث، وهي الاحتلال الأميركي والاحتلال التركي، وتورا بورا الإرهاب في إدلب..
يستطيع الجعفري بالطبع أن يصف الوجود التركي والأميركي بالاحتلال، حتى وإن تناسى الاحتلالين الروسي والإيراني المباشرين والمتحكمين بالقرار في سوريا، أما أن يتهم إدلب بأنها تورا بورا، فهو يقدم نفسه كعميل معلن للدول التي يدعي محاربتها، إنه فتح جديد في عالم الصفاقة الدبلوماسية، لقد أراد الجعفري مغازلة أميركا وتذكيرها بأفغانستان، فلم يتوان عن تشبيه إحدى المحافظات السورية بتورا بورا فقط لأنها خرجت عن سيطرة نظامه، وسنلاحظ هنا أنه لم يتحدث عن “إرهابيين” في إدلب، وإنما عن منطقة جغرافية كاملة شاملاً أهلها المتضررين أصلاً من التنظيمات الإرهابية التي تتشابه في سلوكها مع إرهاب نظامه مع اختلاف شكل الإرهاب..
ومن بين هذه الأولويات عاد الجعفري لينتقي واحدة فقط وهي محاربة الإرهاب، محاربة تورا بورا، أي أن أولويته الوحيدة هي الحرب على الشعب السوري لأنه ليس عدواً شرساً كما هي إسرائيل، بل عدو أعزل، يطلب الحرية والكرامة، وهذا النوع من الأعداء هو الوحيد الذي يستطيع نظام الأسد الرد عليه بكل ما يملك من قوة، وهو العدو الوحيد الذي لا يمارس الأسد معه صبره فوق الاستراتيجي -كما سمّاه الجعفري-، إنه يعلن من حيث يدري أو لا يدري أن مهمة نظامه وأولويته الوحيدة هي قتل الشعب السوري.
فيما يتعلق بأوكرانيا، يصبح معيار بوتين مختلفاً عما يتعلق بسوريا، حيث يقر هنا (في أوكرانيا) بأن الدولة المعتدية هي من تقترب من حدود الآخرين، أما هناك (في سوريا)، فينسى بوتين ذلك تماماً
في لقاء صحفي واحد وقع أسد الدبلوماسية السورية بجملة من المتناقضات، أو بشكل أدق، أدلى بحديث لا يتضمن سوى المتناقضات والتضارب، الأمر ببساطة يتجلى في أن الجعفري ونظامه لا يمتلكون أرضية منطقية لتبرير الوضع المتهالك الذي وصلوا إليه حتى بالكذب، ومن هنا لا مفر أمامهم من اللجوء إلى الصفاقة التي لا يجيدون غيرها والتي تتزايد بشكل مرضيّ فاجع.
في مؤتمره الصحفي الذي عقده منذ يومين، قال فلاديمير بوتين في معرض تبرير تدخله بأوكرانيا مخاطباً حلف الناتو وبالحرف الواحد: “نحن لا نهدد الآخرين، بل إن أميركا هي من تهددنا بدعمها لأوكرانيا”، ثم تساءل في استهجان: “هل اقتربنا يوماً من الحدود الأميركية”؟
فيما يتعلق بأوكرانيا، يصبح معيار بوتين مختلفاً عما يتعلق بسوريا، حيث يقر هنا (في أوكرانيا) بأن الدولة المعتدية هي من تقترب من حدود الآخرين، أما هناك (في سوريا)، فينسى بوتين ذلك تماماً، ينسى أنه من عبر الحدود لقتل السوريين ويقدم تبريرات تتناقض مع حججه في مكان آخر، إنها ذات المدرسة التي تخرج منها الجعفري وغيره من أتباع نظام الأسد، وها نحن اليوم نرى خريجيها يتكاثرون في كل بلدان محور الممانعة، ويبدو أن الدرس الأول والأهم وربما الوحيد في منهج هذه المدرسة هو أن يتعلم طلابها ألا يخجلوا.
عبد القادر المنلا _ تلفزيون سوريا