قبل انطلاق الجولة السادسة لاجتماعات “اللجنة الدستورية”، ورغم الاتفاق الناتج عن ضغط الروس على “النظام” لحاجتهم لمنجز سياسي، ورغم الاتفاق على “منهجية العمل” لكتابة مبادىء ونصوص دستورية، وتعهد بالالتزام بلائحة اللجنة الداخلية، ولقاء الرئيسين المشتركين؛ كَتَبْتُ أن نتائج حقيقية لا تُرجى من هذه الجولة، بحكم طبيعة “النظام” وألاعيبه؛ وإن كان هناك مِن تفاؤل، فهو حذر؛ فنحن أمام “نظام” آخرُ اهتماماته سوريا والسوريون؛ وهو مستعد لتقديم أي نوع من التنازل لأي جهة، إلا لسوريا والسوريين.
وذكرتُ أنه بالرغم من تلك “التوافقات”، فقد نشهد منه فصلاً جديداً من التصرفات والمواقف غير المسؤولة في التلاعب والمزاودة وتضييع الوقت- والأهم ربما عملاً إرهابياً، كما تعوّد أن يوقّت كل اجتماع في جنيف بقصف أو مجزرة أو تفجير، كي يشتت الأنظار عن الاستحقاق السياسي، مستغلاً ما يدّعيه من انفراجات موهومة وانفتاحات خلبية متجاهلاً الحال المزرية التي وصلت إليها البلد وأهلها على كل المستويات.
المنظومة تقود نفسها إلى الانتحار بيدها لا بيد أحد. ولا بد أن صوت ضحايا الإجرام والاستبداد يعلو فوق كل صوت
فعلياً، نفذ النظام المتوقَّع متصوراً أن مجزرة في أريحا، وتفجيراً لحافلة، وبعض البهلوانية والوقاحة في جلسات جنيف، سيشتت الأنظار ويساعده في التملّص من مأزق حُشِرَ فيه.
إلا أن “القنبلة المعاكسة” التي انفجرت بيد ممثلي عصابة النظام في جنيف كانت الأوضح والأفضح له ولحماته الروس. وهنا وجدنا الجاني أمام الامتحان الحقيقي ليس له، بل لداعميه، وتحديدا روسيا، وللمجتمع الدولي.وهنا قِيل إن المنظومة تقود نفسها إلى الانتحار بيدها لا بيد أحد. ولا بد أن صوت ضحايا الإجرام والاستبداد يعلو فوق كل صوت؛ فقد انتهت اللعبة/Game Over، وباتت أكثر من واضحة، ولسان وملامح المبعوث الدولي كانت عارية.
فبدلاً مِن أن يتصرف “النظام” بحنكة و”مسؤولية” مستغلاً بعض الانفراجات والانفتاحات المشبوهة؛ تصّرف بغباء ومكابرة وانتحارية متصوراً أن الكذب والمزاودة ستمر.
وبالعودة إلى جوهر القضية السورية، يتضح بما لا يدعو مجالاً للشك أن العنصر الغائب في المعادلة هم أصحاب الحق الأساس- سوريا والسوريون- ففي مقاربتهم لقضيتهم الأعدل والأشرف في تاريخ البشرية، لن تقوم لهم قائمة في ظل هكذا منظومة إجرامية، ومجتمع دولي بائس، ومعارضة مُربَكة بعضها يرى في “المعارضة” وظيفة، وبعضها إقصائي أناني متمركز حول ذاته، وبعضها موتور يحارب طواحين الهواء، يضرب بلسانه مَن معه أكثر ممن هو عليه، وبعضها امتهن الإحباط والتيئيس، وبعضها يرى المتدخلين بالشأن السوري جمعيات خيرية لا وحوش بمصالح وجشع، وبعضها يحمل جمر الكارثة ويعرف بعمق جوهر الصراع بين الاستبداد والحرية.
لا شك أن لتعثر مشروع الخلاص وهزيمة الاستبداد أسبابا لا حصر لها أبرزها تصحُّر الحياة السياسية في سوريا لقرابة النصف قرن، وتربية اجتماعية وثقافية منتهكة ممزقة ذبحتها الوحشية الأسدية التي رأت في سوريا ملكية خاصة، وبرمجت الناس على تأليهها؛ منظومة مستعدة أن تساوم وأن تتنازل عن أي شيء مقابل بقائها بالسلطة؛ منظومة تتبجح بالسيادة وقد رهنتها للمحتل، وتتغنى بجيش حوّلته إلى قاتل لشعبه، وعن أمن مهمته إرهاب وإرعاب مواطنيه، وعن قانون تفصّله كما تشاء وتدعسه متى أرادت، وعن “انتصار” لأجانب استجدت تدخلهم لحمايتها من شعبها مقابل رهن سوريا لهم؛ ومحيط عربي مريض، يظهر تعاطفاً وشفقة تجاه ما حلّ بسوريا، ويأخذ من المصاب السوري درساً لشعبه؛ ونظام دولي جائر يأكل فيه القوي الضعيف، وعالم يجعجع بحقوق الإنسان وكرامته وحريته، ويعلم بجرائم الحرب الموثقة لمنظومة الاستبداد، ويتقاعس عن فعل شيء.
علينا بداية فهم جوهر قضيتنا بأنها صراع بين شعب ينشد الحرية والعيش الكريم، ومنظومة استبدادية تحول دون ذلك
وهكذا، وبعد كل ما حل بسوريا، وبعد أزمة هذه العصابة الحاكمة وانكشافها حتى على حاضنتها، وعلى شعب سوريا عامة، وعلى محيطها والعالم؛ الأمر الطبيعي أن نراها تستنفر بأقصى درجات الاستنفار؛ وتتصرف بشكل انتحاري كوحش في زاوية جُرْحه قاتل؛ وتدمر كل ما حولها؛ وتحوّل مبدأ “أحكمها أو أدمرها” إلى “يا قاتل يا مقتول”.
وبناء عليه لا بد من التصرف معها كما التصرف مع إرهابي يحتجز رهائن؛ وأول التصرفات ألا يكون هناك تفاوض مع هذه العصابة. وهنا نذكّر العالم وخاصة قواه العظمى بمبدأ “عدم التفاوض مع إرهابي يختطف رهائن”، إلا باستسلامه ومحاكمته “العادلة”؛ ومطالبة الأمم المتحدة بتطبيق قراراتها؛ وحسب قانونها هناك إمكانية للتصرف خارج مجلس الأمن عبر / الجمعية العامة/.
والأهم من ذلك إبقاء حصاره ومقاطعته ووقف مهزلة “إعادة تكريره”- فهذا اشتراك بالجريمة.أخيرا، ماذا بيد السوريين- ولا أقول المعارضة فقط- أن يفعلوا؟ علينا بداية فهم جوهر قضيتنا بأنها صراع بين شعب ينشد الحرية والعيش الكريم، ومنظومة استبدادية تحول دون ذلك. وهذا يستلزم أولاً التوقف عن أن مَن يحمل هذه القضية الكبيرة “معارضة”، بل كل إنسان سوري يحترم كرامته وإنسانيته ووطنه.
علينا تجديد إيماننا بأن ثورة سوريا حيّة وستنتصر. وما علينا إلا إعادة تنظيم صفوفنا، وتفعيل إرادتنا وثقتنا بأنفسنا بأن مَن يأخذ الرهائن مهزوم حتماً- فما نجح مختطف رهائن يوماً- وهو ضعيف يعتمد ببقائه على جهات لها مصالحها ومخططاتها الخبيثة، وأعجز من حمل ملفاته الإجرامية المتراكمة، وتخشى الاندراج في سجله المارق. هكذا تكون خطوتنا الأولى نحو إعادة بلدنا وشعبه الحر إلى سكة الحياة.
يحيى العريضي _ تلفزيون سوريا