وأخيرًا، تمكّن المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سورية غير بيدرسون من زيارة دمشق، ولقاء وزير خارجية سلطة بشار الأسد، وذلك في محاولة لتحريك ملفّ اللجنة الدستورية، وقد عقد كذلك اجتماعات مع المعنيين بالملفّ ذاته، من جانب المعارضة الرسمية، في إسطنبول.
وبالتزامن مع هذا التحرك، جرت، وتجري، اتصالات بين الجانبين الأميركي والروسي حول سورية، وسبر إمكانية التفاهم على خطوات محددة، قد تكون مكمّلة لتلك التي تمت في إطار التمهيد لتمرير قرار مجلس الأمن رقم 2585 تاريخ 9 تموز/ يوليو 2021 الخاص بتمديد آلية إدخال المساعدات عبر معبر (باب الهوى).وقبل ذلك، كانت هناك لقاءات إقليمية تُوّجت بمؤتمر بغداد، في محاولة لإيجاد صيغة من التوافق في الموضوع السوري، خاصة بعد صدور تصريحات أميركية بيّنت عدم وجود نيّة عند الولايات المتحدة لتغيير النظام في دمشق، وإنما هناك رغبة في تعديل سلوكاته.
وفي هذا الإطار، جاء الإعلان الأميركي حول موضوع استجرار الغاز من مصر إلى لبنان، عبر الأردن وسورية، وهو موضوع لم يكن له أن يكون، لولا تفاهمات إقليمية-دولية، أسهمت على الأرجح في إطلاق عملية تشكيل الحكومة اللبنانية، برئاسة نجيب ميقاتي.ويضاف إلى ذلك أنّ ما سُرّب، حول إمكانية عقد لقاء بين هاكان فيدان (رئيس المخابرات التركية) وعلي مملوك (نائب بشار الأسد للشؤون الأمنية) في بغداد، يشير هو الآخر إلى قابلية الوصول إلى تفاهمات بين الجانبين التركي والسوري الرسمي، ربّما تترجم في صيغة مقايضات في المناطق الشمالية من سورية، سواء من جهة الغرب أم الشرق.
ولكن كلّ ذلك لن يكون بعيدًا عن عِلم الجانب الأميركي، وربّما يكون بضوء أخضر منه.أثار لقاء بشار الأسد مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في موسكو كثيرًا من التساؤلات والتكهنات، حول الخطوات اللاحقة، والتفاهمات الإقليمية والدولية حول الموضوع السوري.
وقد كان لافتًا تصريح الرئيس الروسي بأن النظام يسيطر على 90% من الأراضي السورية؛ في حين أن منطقة شرقيّ الفرات وحدها (التي تسيطر عليها قوات “قسد” واجهة حزب “العمال الكردستاني”، بالتعاون مع الأميركان) تشكّل ثلث مساحة سورية!وما دفع المراقبين إلى التركيز على هذه الزيارة، ومحاولة فهم دلالاتها وأبعادها، هو أنها جاءت غداة الترتيبات التي تمت في منطقة درعا، بتدخل وإشراف روسيين مباشرين، وعشية لقاء مهم بين الجانبين الروسي والأميركي في جنيف، كان من المتوقع أن يكون تكملة لخطوات التنسيق في الموضوع السوري، التي كانت بين الجانبين حتى الآن.
وعلى الرغم من التباين في التقديرات والأولويات والحسابات بينهما، يُلاحظ أن التنسيق العام هو سيد الموقف. وما حصل في منطقة درعا قبل أيام لم يكن هو الآخر بعيدًا عن التفاهمات القائمة بين الجانبين، خاصة بعد زيارتي العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني إلى كل من واشنطن وموسكو. إلا أن الجدل الأساس يتمحور حاليًا حول منطقة شرقي الفرات.
والسؤال الجوهري في هذا المجال هو: هل سيستمرّ الوجود الأميركي هناك، وهو الوجود الذي يعتمد ميدانيًا على (قسد)؟ أم أننا سنشهد انسحابًا أميركيًا، بشرط وضع حدّ للنفوذ الإيراني، لصالح تعزيز الوجود الروسي الذي من الواضح أنه يُطمئن إسرائيل أكثر من الوجود الإيراني؟ أمّا مشروع (قسد) نفسه فهو الآخر سيكون جزءًا من التفاهمات التي ستكون بين الروس والأميركان من جهة، وبين الروس ونظام بشار من جهة ثانية.
فالجانب الأميركي تركيزه على العراق، واستراتيجيته في منطقة شرقي الفرات تتمحور حول الحد من النفوذ الإيراني هناك، وهو النفوذ الذي بات متغلغلًا في مفاصل الدولة والمجتمع السوريين. فإذا أبدى الروس استعدادهم للقيام بهذه المهمة، وتمكّنوا من إقناع بشار، أو فرضوا عليه ذلك، فحينئذٍ لن تكون هناك مشكلة عند الجانب الأميركي في الانسحاب من المنطقة المعنية، وذلك مقابل تفاهمات في أمكنة أخرى مع الروس.
أما “حزب العمال الكردستاني” العمود الفقري والطرف المهيمن في (قسد) ومشروع “الإدارة الذاتية”، فإنه لا يجد أي حرج في التفاهم مع نظام بشار، وهو الذي لم تنقطع علاقته معه في يوم ما؛ وهي علاقة مستمرة منذ ثمانينيات القرن الماضي. فمن حيث المبدأ، لا توجد مشكلة لدى هذا الحزب في الإعلان مجددًا عن علاقاته المستمرة مع النظام، وإنما التفاصيل الخاصة بكيفية الإخراج والتسويق هي التي قد تأخذ بعض الوقت.
خلاصة القول: ما يُستنتج، من جملة التحرّكات واللقاءات والتصريحات والتسريبات التي تتمحور حول الموضوع السوري، هو أن الجانبين الأميركي والروسي قد قطعا شوطًا كبيرًا في طريق التفاهمات في الموضوع السوري، خاصة من جهة معرفة كل طرف بحسابات وأولويات الآخر، سواء في سورية أم في كل من لبنان والعراق، أو في مناطق أخرى من العالم.أما التأثير السوري المعارض، فقد بات صفريًا، بكل أسف، وذلك نتيجة ارتباط “منصّات المعارضة الرسمية” المختلفة بأجندات القوى الإقليمية والدولية، وهي في وضعية انتظار التوافقات التي ستكون، وتمنّي النفس بإمكانية الحصول على موقعٍ هنا أو هناك، في إطار الصفقات التي ستتم بين اللاعبين الدوليين والإقليميين.
وعلى الرغم من أن هناك جهودًا كثيرة بُذلت من قبل مجموعات سورية، هنا وهناك، بهدف تشكيل تحالفات أو جبهات واسعة تضمّ مختلف التيارات السياسية والفكرية، أو حتى الدعوة إلى مؤتمر عام يتبنّى برنامجًا وطنيًا عامًا يُجمع عليه السوريون؛ فإن تلك الجهود كانت تصطدم دائمًا بالخلافات الناجمة عن عدم القدرة على تحديد الأولويات، والعجز عن التحرر من الأوهام الأيديولوجية، أو الأجندات الخاصة بحسابات محلية أو إقليمية.
وإنّ عدم إقدام القوى السياسية التي كانت في صدارة العمل المعارض حتى الآن على إجراء مراجعات جريئة جادة، وإعادة تقييم ما حدث من جهة الأخطاء التي ارتُكبت والشعارات التي رُفعت والتحالفات الاستراتيجية التكتيكية التي كانت والاصطفافات التي ترسّخت، فضلًا عن الممارسات والتصريحات السلبية التي أخفقت في طمأنة جميع السوريين من دون أيّ استثناء، إضافة إلى عدم وجود تصوّر واضح لكيفية ترميم النسيج المجتمعي الوطني السوري..
كلّ هذه الأمور وغيرها ما زالت تعوق إمكانية الاستفادة من التجارب السابقة، وما زالت تسدّ الأبواب أمام جهود مشتركة مسؤولة، كان من شأنها توحيد الطاقات وتركيزها في خدمة مشروع وطني سوري عام، يشمل كلّ السوريين، ويُطمئن الجميع.
عبد الباسط سيدا _ مركز حرمون للدراسات