تتزايد في الأيام الأخيرة وتيرة الحملة التي تقوم بها أحزاب المعارضة التركية ضدّ السوريين في تركيا، وقد بلغت حدّ نشر أخبار غير صحيحة، وترويج مقاطع فيديو مفبركة، أو تضخيم أحداث صغيرة، ونشر شائعات تقلب الحقائق، والتعامل مع أي خطأ يرتكبه سوري على أنه خطأ جماعي للسوريين بدلًا من النظر إليه كعمل فردي.
تؤدي هذه الحملة القديمة، التي أخذت ترتفع في الفترات الأخيرة، إلى صعود خطاب الكراهية ضد السوريين، وبروز تصريحات عنصرية تحرّض على السوريين، ويؤدي ذلك إلى تعرّض السوريين لأحداث معادية ولإساءات واعتداءات، وكان آخرها ما جرى في أنقرة مؤخرًا، حيث هاجم أتراك متطرفون محلات ومنازل لسوريين. مما يسيء إلى سمعة تركيا، بين شعوب البلدان العربية والإسلامية ودول أوروبا قبلها، ولا يخدم مصلحة تركيا المعروفة بانفتاحها على شعوب المنطقة والعالم.
تدعو أحزاب المعارضة إلى عودة السوريين إلى سورية، زاعمة أن الوضع في سورية قد أصبح آمنًا، وأن النظام قد نظّم مع روسيا مؤتمرَين لعودة اللاجئين. ونعتقد أن دافع أحزاب المعارضة، في تحريضها ضد الوجود السوري، ليس هذا الوجود بحدّ ذاته، إنما هي تستهدف الحزب الحاكم، إذ روّجوا -ضمن مناكفات السلطة والمعارضة- أن السوريين في تركيا هم “ملكية خاصة” لحزب العدالة والتنمية الحاكم، وقد أشاعوا هذا الافتراء، وجعلوا السوريين دريئة يطلقون عليها النار، للنيل من حزب العدالة والتنمية.
نعم، ثمة سوريون يؤيدون حزب العدالة والتنمية من منطلق سياسي، وثمة كذلك سوريون يؤيدون أحزابًا معارضة، غير أن معظم السوريين ينظرون إلى الدولة التركية التي وقفت إلى جانب السوريين في محنتهم، وسهّلت قدومهم وإقامتهم وعملهم في تركيا، في اعتقاد أن الأمر لن يطول، وبما أن حزب العدالة والتنمية هو من في السلطة، فقد توجّه الشكر إليه كحزب حاكم، وسيكون الأمر ذاته، لو كان أي حزبٍ آخر في السلطة، ولكن يبقى الشكر، أولًا وأخيرًا، للشعب التركي صاحب الفضل، لأنه هو من يتحمل الأعباء.
ولا نكشف سرًا حين نقول إن السوريين بمجملهم، عدا قلة قليلة، لا يهتمون بالسياسة، ولا ينتمون إلى حزب سياسي، سواء أكان تركيًا أم غير تركي، ولديهم من الهموم السورية والعائلية والشخصية ما يكفي، ولا تعنيهم صراعات الأحزاب التركية، إنما همّهم هو عودتهم إلى بيوتهم وأراضيهم ومجتمعهم، في أقرب وقت ممكن، عودة آمنة بكرامة، خاصة أن ظروف العمل والإقامة والعيش عند معظم السوريين لا تشجعهم على البقاء في تركيا، فهم لا يمكلون حقوق اللاجئين ويتعرض معظمهم لظلم في سوق العمل، حيث أن 92% من المشتغلين يعملون بدون تصاريح عمل، وبالتالي وبدون حقوق، ويعمل 75% منهم برواتب تقلّ عن الحد الأدنى للأجور في تركيا، ويعمل 92% من المشتغلين السوريين أكثر من 8 ساعات عمل يوميًا، وأكثر من 45 ساعة عمل في الأسبوع.
إنّ الوضع في سورية اليوم لا يسمح بعودة اللاجئين السوريين، بأي حال من الأحوال، ليس بسبب انعدام أبسط مقومات الحياة في سورية وحسب، وهذا أمرٌ بات معروفًا، بل لأن نظام بشار الأسد ذاته لا يريد عودتهم، بأيّ حال من الأحوال، وينطلق في ذلك من اعتبارين:الأول اعتبار اقتصادي ومعيشي، فهو عاجز الآن عن تأمين المواد الأساسية حتى الخبز، للملايين التسعة الموجودين في مناطق سيطرته، وسيكون عجزه مضاعفًا في حال عودة ستة ملايين آخرين من اللاجئين.
والاعتبار الثاني، وهو الأهم، أن الأسد وجيشه، مع ميليشيات إيران وطيران روسيا، هم من دمّروا بيوت السوريين وهجروهم من مناطقهم وقتلوا أحبابهم، وأجبروهم على اللجوء إلى تركيا ولبنان والأردن أو على النزوح إلى الشمال الغربي في سورية (إدلب وريف حلب)، ولذلك يخشى الأسد عودتهم، فلكلّ منهم ثأرٌ مع الأسد ونظامه، ولا يريدهم في مناطقه، وقد صرّح، منذ 2017، بأن تركيب المجتمع السوري أصبح أفضل!! أي أصبح أفضل بعد أن قتل أكثر من مليون سوري، وسبّب إعاقات لنحو مليونين آخرين، وهدم مليون منزل، وألحق أضرارًا بمليون منزل آخر، وهدم البنية التحتية، وهجَّر أكثر من سبعة ملايين سوري، إضافة إلى نزوح ستة ملايين داخل سورية… وأبلغ مثال على ممانعة بشار ونظامه لعودة اللاجئين هو عجز لبنان، بحكومته الموالية لبشار الأسد، عن إقناع الأسد بالسماح لأكثر من مليون لاجئ سوري مقيم في لبنان، في ظروف صعبة جدًا، بالعودة إلى مناطقهم في سورية، وعندما عادت مجموعة من السوريين تبلغ بضعة مئات، إلى سورية، قام النظام باعتقالهم، مرسلًا رسالة إلى جميع اللاجئين: ألّا تعودوا إلى سورية.
بل إن النظام ما يزال يقوم بأعمال عنفٍ تؤدي إلى تدفق مزيد من اللاجئين، مثل الحصار الذي يفرضه على مدينة درعا البلد، وتهديدها باجتياح عسكري، أو القصف المستمر الذي يقوم به على مناطق السيطرة التركية في شمال غرب سورية، والتسبب في تهجير مدنيين وقتل عسكريين، ومنهم عسكريون أتراك.
أما حكاية المؤتمرين الأول والثاني لعودة اللاجئين، التي تتخذها أحزاب المعارضة التركية دليلًا على إمكانية العودة وأن النظام يرحب بعودتهم، فهي ليست أكثر من بروباغندا روسيّة بالأساس، وكانت روسيا تريد مبادلة عودة اللاجئين، بتقديم مساعدات للنظام لإعادة الإعمار والتعامل معه وتأهيله إذ كانت تقول للمجتمع الدولي: إن عودة اللاجئين تتطلب مساعدة النظام في إعادة الإعمار، لأن مناطق اللاجئين مدمرة، وتتطلب أيضًا التعامل مع النظام كسلطة شرعية وحيدة، ولكن دول الغرب لم تستجب لهذه اللعبة، دون حلّ سياسي شامل، وبقيت قضية عودة اللاجئين السوريين مؤجلة إلى حين تحقيق حلّ سياسي، ولا يبدو الأمرُ قريبًا.
لذا فإن أحزاب المعارضة لن تستطيع تنفيذ تهديدها، بأنها ستعيد السوريين إلى سورية، في حال الفوز بالانتخابات القادمة، ليس لأنها لن تكون قادرة على تنفيذه بسبب تلك التعقيدات وحسب، بل لأنها ستعيد النظر في موقفها حينذاك، وستنطلق من تفكير عقلاني لسلطة مسؤولة تقيم سياساتها بناءً على مصلحة تركيا، كدولة ومجتمع، وليس انطلاقًأ من مناكفة حزب العدالة والتنمية، وستنظر حينها كيف تجعل من الوجود السوري، وله فوائد كثيرة يضيق المجال عنها الآن، أكثر فائدة لتركيا وللسوريين في آن معًا.
فمن وجهة نظر اقتصادية، فإن السوريين يشكلون قوة منتجية شابة ومؤهلة بالنسبة لتركيا حيث أن 87% منهم في عمر الشباب، بين 18 و 30 سنة، وأن 26% من قوة عملهم يحملون شهادة جامعية أو شهادة معهد متوسط، و27% يحملون شهادة ثانوية. ومعظم النسبة الباقية يحملون شهادة إعدادية أو ما قاربها، ويملكون مهارات كثيرة تشكل قيمة مضافة لتركيا.
ثمة تقصير من قبل النخب السورية، في التواصل مع المجتمع التركي، وفي التوجّه إلى المجتمع التركي عبر وسائل الإعلام التركية والمراكز البحثية التركية والأحزاب التركية، ومن ضمنها أحزاب المعارضة، من أجل شرح تعقيدات المسألة السورية، وتعقيدات قضية اللاجئين السوريين في تركيا، وفي الوقت ذاته، على اللاجئين السوريين أن يتفهموا مصادر قلق المجتمع التركي من وجود أكثر من 3.5 مليون سوري في تركيا، وخاصة وجودهم الكثيف في بعض المدن والمناطق ولا سيما إسطنبول وبعض مدن الجنوب، ولكن هناك تقصيرًا من جانب الأحزاب التركية المعارضة أيضًا التي انطلقت من فرضية خاطئة، حين اعتبرت أن السوريين في تركيا هم “ملكية خاصة” لحزب العدالة والتنمية، وناصبت السوريين العداء، وحين تصمت عن انتشار خطاب الكراهية، وهذا يسيء إلى سمعة تركيا، عربيًا وإقليميًا وعالميًا.
ليس هناك ذنب للسوريين، كي يدفعوا ثمن الصراعات السياسية، وببساطة إن السوري الذي يقيم في أنقرة أو إسطنبول أو غازي عنتاب أو أورفة أو أنطاكيا أو غيرها، في بيتٍ ضيق مع عائلته، ويعمل في ظروف شاقة وبراتب لا يصل إلى نصف ما يستحقه، وبما لا يكاد يسدّ رمقه، سيعود حتمًا إلى بيته في وطنه، للعمل في أرضه أو دكانه أو مشغله أو غيرها، وذلك حين يتمكن من عودة آمنة، وسيظل محتفظًا بذاكرته بالمساعدات التي قدّمها الشعب التركي والدولة التركية له، وسيكون لذلك دور كبير في تعزيز العلاقات المستقبلية بين الشعبين وبين الدولتين.
سمير سعيفان _ مركز حرمون للدراسات