syria press_ أنباء سوريا
لأن مفاهيم حقوق الإنسان بشكلها الحديث المكتمل نظرياً وفلسفيّاً والحقيقي التطبيقي هي نتاج غربي كامل، فإننا في كثيرٍ من الأحيان نتحدث عن هذه المواضيع لكننا نشعر في قرارة أنفسنا وكأننا أناس يعيشون في صحراء ويحلمون بالثلج، فيشبهونه بالقطن الذي ينزل من السماء حين يسألهم أطفالهم عنه، فهم أنفسهم لم يشاهدوه ولا يعرفونه بل يسمعون عنه ويشاهدونه في التلفاز، ويشعرون أن قدومه بحاجة إما لإرادة إلهية تغير الصحراء، أو إلى عصر جليدي جديد.
في كثير من الحالات تصادفنا تعليقات عفوية تفضحنا وتوضح مدى غرابة هذا المفهوم عنا خاصة في المواقف المحرجة الحقيقية التي يوضع فيها الإنسان على المحك فيكون عليه مواجهة محيطه ومواجهة قيم تربّي عليها، فمن النادر أن نجد شخصاً مسيّساً يقول: “أنا ضد حقوق الإنسان”، لكنه في مسار حياته اليومية ربما يطلق توصيفاتٍ عنصرية لأنه تربّى عليها، وربما يضرب أطفاله وزوجته.
قبل الثورة كنت أعرف عضواً في شبكة حقوقية دولية لها وزنها اشتكت زوجته إلى مدير الشبكة بأن زوجها يضربها!، وسمعت حينها تبريراً بأنه سلوك غير صحيح لكنها رواسب اجتماعية! ولكنني أعتقد أن جوهر المسألة أن حقوق الإنسان هنا عدّة أيديولوجية لمواجهة النظام فقط، دون قناعة حقيقية، فلم نطلب من الرجل أن يصبح ليبرالياً تحرّريّاً، بل أن يبدأ بأبسط الأشياء وهي الكفّ عن ضرب زوجته!.
وعموماً تتصف أغلب الأفكار لدى حلولها في البيئة السورية بتلوّنها بلونها بدل أن تصبح أداةً رافعة تدفع إلى الأمام، فعلى سبيل المثال وقعت عدة جرائم شرف في الأرياف السورية بتحريض من أعضاء في أحزاب شيوعية، وفي بعض الحالات ارتكبوا هذه الجرائم بأنفسهم.
وبعد الثورة بدا هذا الأمر جلياً حين بدأ الكثير من المنادين بالحرية للسوريين وحقوق الإنسان، يسخفون هذه المفاهيم حين يتعلق الأمر بكتائب المعارضة المسلحة، خاصة لدى وقوع جرائم حرب كقتل لمدنيّين مؤيدين، فحين يُظهِر البعض صلابة حقيقية في تطبيق هذا المفهوم، يظهر الوجه غير المعلن، فيبدأ المحيط المعارض بالسخرية من صاحب الطرح، وأكثر جملة تظهر هنا: “هلق لا تعملي حالك إنساني”. هذه الجملة تعني على عفويتها، نحن لسنا جديرين بهذه المفاهيم، هي مفصلة لبشر مختلفين عنا، هذا شيء للحديث في المؤتمرات والتسلية الثقافية، كما أن تعبير “لا تعملي حالك كذا..” هو تعبير شعبي شائع لكل ما يشذ عن الخط السائد، وكأن كل ما هو حديث ومدني هدفه الاستعراض، وأكثر ما يثير الأسف في هذا التعبير أن كلمة إنساني تستخدم كشتيمة، ثم نجد صاحبها يشتم الغرب الذي يصور المسلمين والعرب بصور نمطية استشراقية، مع أنه يقدم صورة أسوأ بعشرات المرات من صور المسشترقين!.
وحين كان النظام يقصف المناطق الآهلة بالسكان، كان كثير من إعلاميي المعارضة المسلحة يصرخون: “انظروا ماذا يفعل النظام بالمدنيين، النظام يقصف المدنيين”، ولدى حصار النظام لبعض مناطق المعارضة وقطعه الإمدادات الغذائية عنها كان هؤلاء الإعلاميون يصيحون: “النظام يقوم بتجويع المدنيين والأطفال”، المفارقة أن عدداً غير قليل من كتائب المعارضة المسلحة مارس ذات الأمرين كلما استطاع إليه سبيلاً، فقصف المدنيين بأسلحته البدائية، وحاصر نبل والزهراء والفوعة حصاراً طويلاً، وحاصر عفرين في عدة مناسبات، وفي إحدى المناسبات قامت كتائب المعارضة بقطع المياه عن مدينة حلب مع دعم معلن وخفي وشماتة من عدد غير قليل من سياسيّي المعارضة وجمهورها، ولم نجد إلإعلاميين الذين يصرخون مستنكرين ممارسات النظام بحق المدنيين من حصار وتجويع ينبسون ببنت شفة.
ويبدو موضوع الصراخ بحقوق الإنسان في أكثر حالاته هزليةً، حين يحاجج الإسلاميون الغربيّينَ بمنطق الحريات وحقوق الإنسان الغربي لممارسة عقيدتهم بالطريقة التي يرونها هم مناسبة في مجتمعات أخرى مختلفة عنهم قيمياً، علماً أن عقيدتهم معادية لكثير من هذه الحريّات!.
قبل اجتياح مدينة رأس العين بأسابيع قليلة كنت أتحدث إلى سيدة حاصلة على ماجستير في العلاقات الدولية، وقالت لي بدون مناسبة: “أحب الكُرد فهم أصحاب قضية، ولديهم تجربة سياسية”، ولكن بمجرد أن بدأت العلمية العسكرية في رأس العين، وجدتها تشارك منشوراً على إحدى وسائل التواصل الاجتماعي: “بستاهلو، هنن ما دارو بجثث شبابنا بعفرين!”، علماً أنها ليست من أقارب أي من الضحايا الذين تم التنكيل بجثثهم وليست من مناطقهم كي نفترض وجود جرعة عاطفية تدفعها في هذا الاتجاه، ما الذي دفع هذه السيدة للحديث بطريقتين متناقضتين تماماً في فترة قصيرة زمنياً؟ ربما لأننا أتقنّا قول ما يجب أن يقال في العلن وعلى الشاشات كي نظهر كمتحضرين وديمقراطيين ووفقاً لما تقتضيه المصلحة والموضة الدارجة، لكننا إن أتيحت لنا الفرصة سنرتكب الفظائع.
وأذكر أنني علّقت على بوست لصديق قديم، كان يؤيد قصف إدلب بسبب ممارسات الميليشيات المسلحة في عفرين، علّقت: “يا زلمة شبك مليان مدنيين مالهم ذنب”، أجابني: “أنا ماني متلك يا إنساني”.
وأذكر أيضاً أنه في المناسبة التي صدر فيها تقرير دولي عن حالات تهجير لمدنيين من تل أبيض من قبل مسلحي حزب ال ب ي د، وجدت لأول مرة عدداً كبيراً من مثقفي الكرد والمسيّسين، يتهمون الجهة الدولية ذاتها التي لطالما كانوا يصفونها بالمحايدة بالتحيز، وشطح بعضهم بأن العاملين العرب معهم على الأرض عنصريون، كما أن عدداً كبيراً من الكُرد المعارضين لسياسات حزب ال (ب ي د) لأنها سياسات دكتاتورية وتكرّس عبادة القائد، هم أنفسهم يدافعون عن التوريث في كردستان العراق وعن الطغمة الفاسدة فيها، ويمارسون عبادة القائد.
مجمل هذه اللوحة تبدو ضرباً من الهذيان، كل شخص مؤيّد لطرف يبرر فظاعات من يحملون السلاح من طرفه بأن يذكر جرائم الطرف الآخر، على طريقة الردح، مثل طالبين في المرحلة الابتدائية، تضاربا، وجاءت المدرِّسة لمعاقبتهما فكان كل واحد منهم يقول: “آنسة هو ضرب بالأول”، وكل واحد منهم يمسك بخناق الآخر “فلتني أنت بالأوّل لأفلتك”، لكن مع فارق أن الضرب هنا جرائم قتل جماعية وتعذيب، وجرائم حقد وكراهية وتهجير ونهب، مارستها جميع أطراف الصراع السوري!، يا ترى متى رح نبطل نعمل حالنا إنسانيين، ونحاول فعلاً نصير إنسانيين، ونحقق شروط إنسانية يعيشوا فيها أولادنا، لأنها بالنسبة لنا، راحت علينا ومشي الحال.
عمار عكاش _ الأيام السورية