syria press_ أنباء سوريا
مظاهرة يوم الجمعة 6 كانون الثاني 2012، كانت – برأيي الذي لا يُعتد به – نقطة التحول الفارقة في تاريخ قدسيا خلال الثورة، شهدت المدينة ذلك اليوم أكبر مظاهرة، انطلقت كالعادة من ساحة العمري، وارتفعت الأصوات بالتكبيرات والهتافات، رغم وجود عناصر الشرطة، ومكافحة الشغب، والشبيحة المدججين بالهراوات والدروع، وبنادق الغاز المسيل للدموع، وبنادق الخرطوش (PUMP ACTION)، والبنادق الآلية (KLASHINKOV)، إلا أن أعداد المتظاهرين السلميين وقوتهم كانت كبيرةً لدرجةٍ لا يمكن إيقافها، رأيت بعيني الضابط المسؤول برتبة عقيد، وهو يمنع عناصره من إطلاق النار، لكن الوضع انفلت، فبدأت قوات الأمن تطلق الغازات المسيلة، وطلقات الخرطوش، فيما كانت تطلق رصاصها فوق الرؤوس للتخويف، وكان الرد بالهجوم عليهم بالأيدي والحجارة، وبرد قنابل الغاز عليهم، فبدؤوا بالانسحاب..
على بعد عشرة أمتارٍ مني كان الشهيد “عبد الإله محمد”، يرمي الحجارة على الأمن، وعندما عادت القنابل والرصاص، احتمينا خلف سيارة (فان)، فجأة خرج “عبد الإله”، واندفع أماماً ليلقي الحجارة، لكنه عاد يمشي حانياً ظهره، ويضع يده على بطنه، أمسكت به مع آخرين، وساعدناه على المشي، لم تكن هناك دماء على بطنه، لكنه سقط، وهو يرفع سبابته ويتشهّد؛ أصيب “عبد الإله” بطلقة خرطوش عن قربٍ، ما جعلها أشد فتكاً من الرصاص الحي، إذ اخترقت كراتها جسده النحيل، فهتكت أعضاءه الداخلية، وجعلته ينزف داخلياً.. حتى الموت.
كان “عبد الإله ” شاباً وسيماً جداً، وشجاعاً، لم يبلغ العشرين من عمره، تعرفت إليه خلال عمله لدى صديق طفولتي، الشهيد “أحمد رزمة”.
انسحبت عناصر الأمن وحفظ النظام، فرفعنا أعلام الاستقلال، وعدنا للتظاهر مجدداً في الساحة الرئيسة، عانقني الشهيد “إياد البابا” بحرارةٍ، وأثناء تبادلنا الحديث، بدأ رصاص حيٌّ ينهمر بغزارةٍ، كانت قوات بالعتاد الحربي الكامل ترتدي المموه تقترب منا، سقط العشرات جرحى، فيما استشهد الطفل “صافي خليل” على الفور؛ أخلينا الساحة والرصاص من فوقنا وتحتنا، كنا نركض كمن مسَّه الشيطان. إلا أن انسحبت القوات المهاجمة؛ فعدت مع “ياسر”، وبدأنا نجمع فوارغ الطلقات، كانت بالآلاف من عيارات مختلفة، أشار صديقي “ياسر” لإحدى الفوارغ الغريبة، كانت روسية الصنع، عيار (5.54)، لكنها ليست لبنادق (KLASHINKOV)، عيار (7.62).
حين عدت للبيت مساءً، بدأت البحث عن نوع تلك الفوارغ، فاكتشفت أنها تعود لبنادق روسية، (KALAKOV)، تستعملها القوات الخاصة، فعرفت أن من هاجمنا، هي وحدات الفرقة (14) – قوات خاصة، المتمركزة في “وادي العراد”، والتي ستغنم مجموعاتنا بعد شهورٍ، بعضاً من بنادقها تلك، فأعاينها عن قربٍ، وأجربها..
في اليوم التالي، وبعد تشييع الشهداء في موكبٍ لم نشهد له مثيل، ضم عشرات الألوف، كان الشيخ “سمير صالح” مدعواً للاجتماع بالعماد “آصف شوكت”؛ عاد شيخنا مساءً والتقينا به، فأوجزنا شروط “شوكت”، التي رفضناها بطبيعة الحال؛ بصراحةٍ لم أكن مهتماً بما طلبه “شوكت”، كانت تشغلني أمورٌ أخرى، فاقتربت من الشيخ، وسألته هامساً: ما هو انطباعك عن الاجتماع، وكيف كانت ملامح العماد “شوكت”، وردات فعله، وماذا استنتجت من كلامه؟
فأجابني الشيخ: لقد كان “آصف شوكت” متوتراً جداً، وخائفاً، وقال للشيخ – ضمناً – أنه غير راضٍ عن سياسة النظام الأمنية/ العسكرية، وأنه مقتنعٌ أن سقوط النظام.. مسألة وقتٍ لا أكثر.
محاولة الانشقاق الفاشلة
رغم منبته الفقير، ونشأته المتواضعة في قرية “المدحلة”، التابعة لمحافظة طرطوس، إلا أن “آصف شوكت” تميز بالعديد من الصفات، والخصائص الشخصية، التي أهلته لاحقاً – مع مجموعة ظروف موضوعية – للوصول لمكانةٍ سياسيةٍ، وعسكريةٍ رفيعةٍ، حيث أصبح في عهد بشار الأسد، الرجل الثالث في النظام.
تقول إحدى الروايات أن أصول عائلة “شوكت” تعود لإحدى العشائر البدوية، التي استقرت في الساحل السوري، وربما ذاك ما أورثه تلك الكاريزما القوية، والسُمرة الجذابة، إضافة لتلقيه تعليماً جامعياً في اختصاص التاريخ، قبل أو بعد انتسابه للكلية الحربية، ما جعله متفوقاً على أقرانه العسكريين التقليديين، لجهة الثقافة، وسعة الأفق، وفوقها كان “شوكت” يتمتع بشجاعةٍ، وذكاءٍ، وطموحٍ، وقوةٍ ولياقةٍ بدنيةٍ، أهلته للانضمام لسرايا الدفاع، ثم القوات الخاصة، قبل انتقاله لشعبة المخابرات العسكرية.
فيما كانت اللحظة الفارقة في حياته، زواجه من “بشرى الأسد”، الابنة الوحيدة، والمدللة لحافظ الأسد؛ تلتقي “بشرى” مع “شوكت” في أنها تتمتع بمواصفاتٍ شخصيةٍ مميزة، كالذكاء، وقوة الشخصية، والطموح، فضلاً عن مكانتها الأثيرة لدى والديها، ما أكسبها سلطةً، مهدت بها لزوجها الذي تحب “شوكت”، طريق الارتقاء نحو القمة.
سطع نجم “آصف شوكت” بعد توريث “بشار الأسد” رئاسة الجمهورية، حيث كانت علاقة بشار بآصف جيدة جداً، وعلاقته بـ”أنيسة مخلوف” عرّابة الأسرة/النظام ممتازة؛ رفَّع بشار “آصف شوكت” لرتبة لواء، وعينه نائباً للواء “حسن خليل” رئيس شعبة المخابرات العسكرية، فأصبح “شوكت” واقعياً هو الآمر الفعلي للشعبة، وأُسندت لـ”شوكت”، عدة ملفاتٍ مهمةٍ وحساسةٍ، منها ملف الفصائل الفلسطينية، وملف مكافحة الإرهاب، وهو ما أعطاه صلاحياتٍ واسعة للتواصل مع رؤساء أقوى وأهم أجهزة الاستخبارات الإقليمية، والدولية، على رأسها الاستخبارات المركزية الأميركية، والمخابرات الفرنسية، والبريطانية، وغيرها.. ما مكنه من بناء شبكةٍ من الروابط السياسية والأمنية الخارجية، والعلاقات الشخصية الدولية.
في العام 2005، وبعد اغتيال الرئيس “رفيق الحريري” تمت إقالة اللواء “حسن خليل” من رئاسة شعبة المخابرات العسكرية، وحل اللواء “آصف شوكت” مكانه، وعلى عكس ما أُشيع، ورغم أن لجنة التحقيق الدولية في جريمة الاغتيال، استجوبت اللواء “شوكت” أكثر من مرة، بتهمة مشاركته بالاغتيال، إلا أن “شوكت” في الحقيقة لم تكن له أي صلةٍ بالعملية، فملف لبنان لم يكن من ضمن اختصاصاته، وكان الأميركيون والفرنسيون والسعوديون – وهم الأشد غضباً من بشار وقتها – على وجه الخصوص يعلمون ذلك، وهو ما دفع الإدارة الأميركية وقتها لاتخاذ قرار بمعاقبة “بشار الأسد” عسكرياً، إلا أن جهاتٍ أخرى اقترحت على إدارة الرئيس “بوش”، حلاً آخراً، يضمن لها ألا تكرر خطأها الاستراتيجي في سوريا، بتفكيك وإسقاط “الدولة”، كما فعلت في العراق.
الحل كان أن يقوم “آصف شوكت” بتنفيذ انقلابٍ عسكريٍ يطيح ببشار الأسد، وشقيقه ماهر.
كان “آصف شوكت” في موقعٍ يمكنه من ذلك، فهو رئيس أقوى جهاز مخابرات في سوريا، وله قبول واحترام داخل الجيش، ويتمتع بالشجاعة والطموح، ويمتلك شبكة علاقات دولية، تستطيع تسويقه إقليمياً، ودولياً، كما تستطيع زوجته “بشرى” التي تفوق بقوتها وذكائها شقيقها بشار، والتي تكن كراهية كبيرة لـ”أسماء الأخرس”، الحصول على موافقة والدتها، بعد نجاح الانقلاب، طالما أن بشار وماهر لم يعودا مقبولين دولياً، واتخذ قرار بالتخلص منهما، وهو ما يضمن بقاء “الدولة” في سوريا، ولا يخرج آل الأسد خاليِّ الوفاض تماماً، بوصول “بشرى” لمنصب السيدة الأولى.
كان مخططاً أن ينفذ اللواء “آصف شوكت” انقلابه العسكري، الذي رسمت خطوطه العريضة الاستخبارات الأميركية، والفرنسية، ومخابرات دول إقليمية ما بين العام 2006 – 2007، وطُلب من “شوكت” ان يبدأ بتحضير وتنفيذ ذلك، إلا أن العملية فشلت قبل أن تنفذ، ما دفع اللواء “شوكت” للهروب مع زوجته “بشرى” خارج سوريا، وإقامتهما في إمارة دبي لما يقارب ثلاث سنواتٍ، إلى أن انزاحت أزمة اغتيال “رفيق الحريري” عن كاهل بشار الأسد، بصفقةٍ دوليةٍ، توسط بها الرئيس الفرنسي “نيكولا ساركوزي” ودول إقليمية، بعد تنازلات قدمها “بشار الأسد” وتعهده ببدء مفاوضاتٍ مع “إيهود أولمرت”، لتوقيع اتفاقية سلامٍ مع إسرائيل.
يقول رأيٌ أن سبب فشل محاولة “آصف شوكت” الانقلاب على بشار الأسد، استحالة حدوث انقلاباتٍ عسكريةٍ في النظام السوري، منذ استيلاء حافظ الأسد على السلطة، وبناءه شبكة مخابراتية تراقب بعضها بعضاً، وتتغلل في كل مفاصل الحياة في سوريا، ما يفسد أي محاولة، ويفشلها قبل وقوعها، لكني في الحقيقة أخالف هذا الرأي، الذي كان يصح في زمن حافظ، لكن ليس بالضرورة أن يصح في عهد بشار، وما أرجحه – برأيي الذي لا يعتد به دوماً – أن جهة خارجيةً ما، هي من سربت لبشار مخطط “شوكت” بالانقلاب عليه، وأدت بالتالي لإفشاله.
على أية حالٍ، توسطت لاحقاً إحدى الدول العربية التي لن أسميها، لعودة “شوكت” وزوجته إلى سوريا، وحين عاد، قام بشار الأسد بتجريده من كل الصلاحيات، وتجميده بترفيعه لرتبة “عماد”، ونقله لمنصبٍ شرفيٍ في الأركان، كنائب رئيس هيئة الأركان للشؤون الأمنية، وبقي العماد “آصف شوكت” مجمداً، إلى أن اندلعت الثورة، فتم إخراجه من ثلاجة الأركان، وزجه في أتون الثورة، لتحرقه نيرانها في النهاية.
فادي محمود_ موقع تلفزيون سوريا