ومَن زفّ خبر الاتفاق هذا، لا يكفُّ عن تعريف نفسه بأنه ركن مقاومة إسرائيل، والمقيم على إرث من قال مرة “اسرائيل شر مطلق”. وهو قال في زفِّهِ الخبرَ إياه إن “القدس وفلسطين ليستا قطعة من الأرض، بل من السماء”. وفي ظنّه أن هذه الرطانة اللغوية التي تنزع عن فلسطين الصفةَ الأرضية والدنيوية، البشرية والإنسانية، تخرجها من ركام التاريخ وغباره، ومن التباسات وقائعه وحوادثه المتدافعة، وترفعها إلى مصافِ القداسة السّماوية والدينية، وتجعلها أبداً خالصاً أو محضاً.
وما أدراك ما الأبد الذي قد يكون مثل “ليلة القدر (التي) تَنزَّل (القرآن) والملائكة والروح فيها”، وتنبو – مثل أبد سوريا الأسد – عن الوصف والزمان والدنيا والتاريخ وأفعال البشر.
علاّمة إدارة الكوارث ورائدها
ويقول كثرٌ إن انفجار مرفأ بيروت الكارثي، هو الذي أسّس للحوادث اللبنانية التي تلته، واستأنف الكوارث التي سبقته. فلولاه لم يبادر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى زيارة بيروت المنكوبة. ولما هدّد أركان السياسة – النكبات وزعماءها في لبنان، بالويل والثبور، إذا لم يكفّوا عن سوس بلادهم كأرض سيبةٍ ومناهبة. وعن معاملتهم أهلَها كرعايا منذورين لسلطانهم الغاشم، بل قطعاناً موؤدة في تناحرهم المستميت على إفقارهم وإذلالهم واستعبادهم.
وهو استعبادٌ قد يكون طوعيّاً أو إراديّاً، ولا مخرج لهم منه إلا بالمزيد من الذّل والهوان والفقر، أو بمغادرتهم بلادهم المهدّدة بالاختناق والمحق، ليصيروا لاجئين مشردين تائهين في ديار الله الواسعة، مثل سابقيهم الفارين من ديار أبد سوريا: “الأسد أو نحرق البلد”.
وكان أسد سوريا الأول، قد سبق خميني إيران ووريثه خامنئي في كونه علاّمة في إدارته كوارث سوريا ولبنان والفلسطينيين، والإتجار بهم تجارة إقليمية ودولية مارقة. ويُروى عنه (أي الأسد)، في بدايات حروب لبنان الأهلية – الإقليمية، أنه في لقائه الزعيم المسيحي اللبناني بيار الجميل، الذي حاول إقناعه بالكف عن دعم المقاومة الفلسطينية ولجمها في لبنان، قال للجميل: “ضَعْ على لسانك وشفتيك، قل وردّد كلما تكلمت: فلسطين، فلسطين، فلسطين… وافعل ما تريد وتشاء في لبنان”. وحافظ الأسد في هذا إنما يقول لبيار الجميل: افعل ما فعلتُهُ وأفعلُه أنا في سوريا. أي أقتل ما ومَن تشاء من الفلسطينيين واللبنانيين، باسم قضية فلسطين السماوية المقدسة.
وهذا ما أجاده وبرع فيه لبنانيو الطاعة العبودية للأسد، أولئك الذين قتلوا في “حرب المخيمات” من الفلسطينيين في لبنان، باسم القضية الفلسطينية المقدسة، ربما أقل بقليل من ما قتلته منهم إسرائيل في حروبها عليهم وعلى لبنان. وذلك بعد ما أطلقوا على من تبقى من الشعب الفلسطيني في لبنان عقب صيف 1982، تسمية “الزُّمر العرفاتية” التي كانت واحدة من فنون الدعاية الأسدية التي تقول إن الأسد أحرَصُ على فلسطين وقضيتها من شعبها، أي مجرّدة من شعبها. أو المهم أن تبقى القضية منذورة للقداسة، ولتجارة الأسد بدماء شعبها وفنائه.
وكان الشاعر محمد العبدالله قد سأل مرة حبيب صادق – مؤسس “المجلس الثقافي للبنان الجنوبي” وناشر كتاب قصائد “شعراء الجنوب” في عنوان “كل الجهات الجنوب” في مناسبة احتلال إسرائيل الجنوب اللبناني للمرة الأولى ولأشهر من سنة 1977 – سأله قائلاً: لماذا يا أستاذ حبيب لا تغرمون بالجنوب ويحلو في عيونكم، إلا بعد أن تحتله إسرائيل وتشرّد أهله؟!
لبنانيو العبودية الإرادية
ومن مآثر حافظ الأسد التي يتغنّى بها لبنانيو العبودية الإرادية – ومنهم عامله اللبناني الأول والأوفى في قصر بعبدا، إميل لحود وسواه كثيرون – أن الأسد بحنكته التي لا تتكرر في إدارته من مخبئه الأمني الحصين في دمشق الحروب بالوكالة، هو من “انتزع” من إسرائيل، أثناء حربها الجوية والمدفعية على حزب الله سنة 1996، ما سمته “عناقيد الغضب”، ما سُمي “اتفاق نيسان” من تلك السنة. وهو الاتفاق المجيد، الذي يُقال إنه “شرّع” دولياً للحزب إياه مقاومته إسرائيل، بأمرة أسدية – خمينية مشتركة من لبنان. حتى أن رفيق الحريري، قبل تملمُلِه من طاعة الأسد، لم يتوقف عن التّغنّي بأنه هو، بعلاقاته الدولية الواسعة، مَن مكّن الأسد من ذلك “الاتفاق الانجاز المعجزة”.
وفي ما سمي “انتفاضة 6 شباط 1984″، على عهد أمين الجميل وحكومته، تمكّنت التجارة الأسدية مع رهطه اللبناني بقضية فلسطين وحروب لبنان، من إسقاط ما سُمّي “اتفاق 17 أيار 1983”. وذلك لتستمر تلك التجارة وتزدهر مع الحروب الأهلية الملبننة. أما عندما قررت اسرائيل إجلاء جيشها بلا اتفاق مع لبنان، من الشريط الحدودي الجنوبي اللبناني الذي تحتله، فهبّت الدعاية الأسدية ورهطها من أصحاب العبودية الإرادية في لبنان، وأشاعوا أن الانسحاب الإسرائيلي ليس سوى مؤامرة موصوفة على لبنان ومقاومته وعلى القضية الفلسطينية، قضية العرب الأولى، الأخيرة والمقدسة والأبدية، والتي لا حياة للعرب من دونها، مثل الأبد الأسدي إياه.
وقد نفذت إسرائيل مؤامراتها، فانسحب جيشها من ذاك الشريط اللبناني المحتل في أيار من العام 2000. وسرعان ما تحوّلت تلك المؤامرة احتفالاً ببطولات المقاومة الأسدية – الإيرانية في لبنان، لتتحول المؤامرة إياها “عيد المقاومة والتحرير” في لبنان.
التجارة الإيرانية بلبنان وفلسطين
وانتقل أخيراً الإتجار بالكوارث “العربية” في العراق واليمن وسوريا ولبنان، وبقضية فلسطين بالدرجة الأولى والأساسية، إلى إيران الإسلامية والفارسية وحشودها من أهل العبودية الإرادية في هذه البلدان. وها لبنان يعيش كوارثه المكثّفة العاصفة على إيقاع فصل من هذه التجارة المدمرة التي انتقلت إلى الحدود البحرية اللبنانية – الإسرائيلة.
الكاتب “محمد أبي سمرا” _ عن المدن