وسط سيل التحليلات التي تحذّر من خطر المرسوم الذي أصدره رأس النظام السوري، بشار الأسد، قبل أيام، والقاضي بتعزيز دور “المجلس العلمي الفقهي” وتوسيع صلاحياته، تم تداول تحليلٍ يتعلّق بأثر هذا المرسوم على إدارة أملاك الوقف “السُني” واستثمارها أو حتى بيعها، في سوريا. وذهب هذا التحليل بالبعد السياسي – الديني للمرسوم الأخير إلى بعدٍ آخر يتعلّق بتعزيز الهيمنة الإيرانية على الصعيد العقاري، حيث سيصبح الشيعة شركاء لأهل السُنة في إدارة الأوقاف التي عُرف عنها لقرون أنها “أوقاف سُنية”.
ويحمّل التحليل المشار إليه، مرسوم الأسد الأخير، ما لا يحتمل، ويذهب به إلى فضاء ليس فضاؤه، ويأتي ذلك جراء الخلط بين دور “المجلس العلمي الفقهي”، وبين دور “مجلس الأوقاف المركزي”، المعني بإدارة الأوقاف بسوريا، وفق القانون 31 لعام 2018.
هذا اللغط، قد يكون مناسبة للوقوف مجدداً عند قضية سبق أن أُثيرت بعيد صدور القانون 31، وتتعلق بالصلاحيات الواسعة التي مُنحت لوزارة الأوقاف في إدارة واستثمار العقارات الوقفية بسوريا. فهذه العقارات، التي لا توجد أرقام دقيقة تحدد قيمتها، تحتل أغلى المواقع العقارية بقلب المدن السورية الكبرى، وفي مقدمتها العاصمة دمشق، التي يُوصف الوقف فيها بأنه يحتل نصف مساحتها. ووفق تصريح قديم لمدير أوقافها، فإن العقارات الوقفية بدمشق تُقدّر قيمتها بمليارات الليرات. فيما يصل عدد العقارات الوقفية في مدينة حلب إلى 5000 عقار.
القانون 31 والذي نظّم عمل وزارة الأوقاف، عام 2018، ومهّد للمرسوم الأخير الصادر عن الأسد قبل أيام، لم يمنح رجال دين شيعة أو ممثلين لمذاهب غير سُنية، أية صلاحيات تتعلق بإدارة العقارات الوقفية التي تُوصف بأنها “سُنية”، بل خصّ هذه الإدارة بـ “مجلس الأوقاف المركزي”، كما سبق وذكرنا. وهذا المجلس، يُشكله الوزير، أي أن العقارات الوقفية التي تُقدّر بأسعار فلكية من ناحية القيمة السوقية، خاضعة فعلياً لصلاحيات وزير الأوقاف، والذي يملك سلطة كبيرة في التحكم بها، وفق نص القانون.
ينقلنا ما سبق إلى محطة أخرى تتعلق بالفساد في وزارة الأوقاف، التي تُوصف بأنها من أغنى الوزارات المنهوبة على الإطلاق في سوريا، جراء التلاعب في عمليات إدارة العقارات الوقفية تحديداً. ولا يوجد أي بعد طائفي في هذا الحيز. إلا ربما باستثناء ما مُنحته وزارة الأوقاف من عقارات لتكون تحت سيطرة مؤسسات أو مراجع شيعية، بضغط من نظام الأسد، وذلك خلال نصف قرن من حكم البلاد، وليس نتيجة للمرسوم الأخير أو حتى للقانون 31 الصادر عام 2018.
بل على العكس من ذلك، ربما كان القانون 31، وفق وصف رجل الدين الإسلامي المعارض، محمد حبش، شكلاً من أشكال المكافأة لنخبة محددة من رجال الدين “السُنة” الذين دعموا نظام الأسد في العشرية الفائتة، فعزّز النظام صلاحياتهم في التصرف بإيرادات الأوقاف السورية الغنية، وفق معادلته الشهيرة، الفساد مقابل الولاء.
إذ تم تمرير بنودٍ في القانون 31، فهي تتيح التحايل على مبدأ حظر بيع العقارات الوقفية، الذي يقرّه القانون نفسه. وهو ما سبق وأشار إليه محللون كُثر. من ذلك ما يتعلق بالمادة 52 التي سمحت للوزارة أن تستثمر الوقف العقاري في عمليات البنوك الإسلامية وشركات التأمين الإسلامي، الأمر الذي يتيح ثغرة لتبرير خسارة العقار الوقفي وبيعه بالمزاد العلني أو نقل ملكيته لبنوك أو شركات تأمين. كذلك أتاحت المادة 52 استبدال العقارات الوقفية بعقارات أخرى، مما يفتح الباب للتحايل عبر استبدال عقار وقفي أعلى وفق القيمة السوقية، بعقار آخر أقل قيمة. كذلك المادة 64 التي سمحت باستبدال عقار وقفي مُتجاوز عليه بعقار آخر.
باختصار، أتاح القانون 31 لفاسدي وزارة الأوقاف الذهاب خطوة أبعد في فسادهم الذي كان منحصراً سابقاً في عقود تأجير العقارات الوقفية وتحديد أجور استثمارها، ليصبح من المتاح بيعها، بذريعة قانونية، بصورة تخالف الغاية الأساسية من العقار الوقفي، والتي هي الاستفادة من إيراداته لمساعدة الفقراء.
ورغم أنه، ومنذ صدور القانون 31 في خريف العام 2018، وحتى الآن، لم يتم الحديث عن عملية بيع أو استبدال لعقار وقفي، وفق ما هو معلن، إلا أن هذا الإجراء بات متاحاً أمام وزير الأوقاف، بموجب القانون ذاته. وهي خطوة محتملة بشدة، في الأيام المقبلة، وسط ما توحي به التحركات التي قامت بها الوزارة خلال السنوات الثلاث الماضية، بهدف تعزيز إيراداتها، من قبيل رفع إيجارات العقارات الوقفية حوالي 20 ضعفاً، في بعض الحالات. أو حتى طرح أجزاء من العقارات الوقفية للاستثمار التجاري، كما فعلت “أوقاف دمشق” حينما طرحت حمامات المسجد الأموي لهذه الغاية، الأمر الذي أثار استفزاز السوريين على نطاق واسع.
أما المُتربع على عرش هذه الثروة العقارية، والمتحكم التنفيذي -على الأقل- بأمرها، وفق القانون، فهو محمد عبد الستار السيد، وزير الأوقاف، الخصم اللدود لمفتي سوريا الأخير، أحمد بدر الدين حسون. وكانت سنوات التهميش الثلاث لهذا الأخير، والتي بدأت مع صدور القانون 31، وانتهت قبل أيام، قد تزامنت مع تهشيم وزن رامي مخلوف، ابن خال الأسد، في عالم الأعمال السوري. فالشراكة الشهيرة بين الرجلين، حسون (عبر ابنه عبد الرحمن) ومخلوف، في قطاع الأعمال كانت وصمة لم يستطع رجل الدين الشهير بتملقه للنظام، أن يتجاوزها. ليأتي زمن محمد عبد الستار السيد، بوصفه أداة الأسد الذي حظي بثقته ليدير ثروة العقارات الوقفية بسوريا، ويمنح عقود إيجارات النفيس منها، لرجال أعمال جدد، اصطفاهم النظام ليمثلوا مصالحه، من قبيل وسيم القطان، الذي حظي بعقد استثمار مجمع يلبغا الشهير بقلب دمشق، في العام 2019.
وهكذا لا خطر على الأوقاف العقارية “السُنية” في سوريا، من تمدد الشيعة المدعومين إيرانياً. فتلك الأوقاف تحظى بلصوص من “السُنة” أنفسهم، حريصون على ترتيب مصالح النظام في هذه الأوقاف، بالصورة التي ترضيه.
إياد الجعفري _ المدن