أثارت الأحاديث التي أطلقها أكثر من سياسي تركي، بمن فيهم الرئيس التركي نفسه، عن المصالحة بين النظام و”المعارضة”، موجة من الاحتجاجات على وسائل التواصل الاجتماعي كما جرت العادة منذ مدة، وعلى أرض الواقع في الشمال السوري، فقد خرجت تلك المناطق “المحررة” في مظاهرات ترفض أي حديث عن المصالحة، لأنها خيانة لدماء الشهداء ونضال السوريين وتضحياتهم في مواجهة النظام المجرم.
ومن متابعة سير الأحداث يبدو أن دوائر صناعة القرار التركية فوجئت بحجم الرفض الشعبي للتصريحات، الأمر الذي دفعها إلى إصدار توضيحات بشأن كلمة مصالحة، تقول: إن المصالحة تعني تطبيق القرارات الدولية، وخصوصا هيئة الحكم الانتقالي.
هذا الرفض السوري الواسع للمصالحة ناجم في جزء كبير منه عن المدلولات الثقافية والرمزية التي تحملها الكلمة في الوعي الجمعي لدى المتكلمين بالعربية، فالمصالحة تعني فيما تعنيه التفريط بالحقوق، والعفو عما مضى من جرائم وجنايات ارتكبت بحق الفرد أو الجماعة، ويتخذ هذا المدلول معنى الاستسلام بالطريقة التي طبق فيها النظام عملية المصالحة.
رفض فكرة المصالحة له جذور في سيرة الزير سالم، إحدى أهم الحوامل الفنية للأفكار النسقية للعرب عن أنفسهم وعن العالم من حولهم، وقد قامت بهذا الدور عبر قرون طويلة، الأمر الذي جعلها تترسخ في الوجدان الشعبي، وتعبر عن العالم الرمزي لنسبة كبيرة من الجمهور العربي. وقد أسهمت الدراما في إحياء هذا الوعي النسقي العربي ونشره عبر مسلسل الزير سالم، الذي كان له صدى كبير، وما زال حتى اليوم يحقق نسبة عالية من المشاهدات على قنوات اليوتيوب وغيرها. هكذا اجتمع السيري والدرامي في مسلسل غدا واحدا من أيقونات الدراما العربية، الأمر الذي أتاح وصول المقولات والأنساق الفكرية من خلال المسلسلات إلى كل بيت. وقد رأينا صدى هذا المسلسل في وسم “لا تصالح”، وفي استحضار قصيدة أمل دنقل التي صورت الحادثة من زاوية شعرية. وهو استحضار يكشف عن عمق التأثير الذي يمارسه “الفني” على “الفعل السياسي” وتمظهراته.
في السيرة الشعبية، كما في الدراما، لم يستحوذ كليب وائل على إعجاب جمهور المستمعين في الأولى ولا على رضا المشاهدين في الثانية، بل كان سلوكه أقرب إلى الإدانة، لأنه حاول إذلال أبناء عمومته، فقد صور في السيرة رجلا متسلطا، متكبرا، يريد فرض إرادته على أناس أحرار لا يقلون عزة وأنفة وكرامة عنه، كما أن “ممدوح عدوان” قدم له في الثانية قراءة معاصرة، تقول: إن “كليب” أراد أن يقيم دولة أو مملكة، ليبتعد بقبيلته عن حياة الترحال والخيام، ولكنه أخفق لأنه أراد استنبات بذرة لا يمكنها النمو في مجتمع قبلي ليس مهيئا لها.
وعلى النقيض منه شخصية الزير سالم، إذ تحظى باحترام كبير في الوعي الشعبي، لأن الزير رفض أن يصالح على دم أخيه، ووصلت به المطالبة بدم أخيه أنه رفض أن يكون ملكا بدلا من أخيه القتيل. الزير سالم شخصية عدمية ترفض الارتكان إلى شروط الواقع، فلا أفق لدى الشخصية إلا القتل والدمار، ولا يعنيها الناس ولا الملك الذي كان يحاول كليب إقامته، إن ما يعنيها هو الرفض، والثورة على الحياة الراهنة ومحاولة تدميرها. كل هذا هو ما يريده الزير سالم، أو قل ما يريده النسق الثقافي الذي أطل برأسه من خلال ألاعيب الدراما وحيلها.
شخصية الزير هذه هي التي تستهوي السوريين، وهي التي رأيناها في الأيام الأخيرة تطل برأسها بخطابها النسقي عن الأخذ بالثأر، و”أريد كليب حيا”. فقد انتشرت في وسائل التواصل الاجتماعي عبارات عدمية، تشترط للمصالحة “أن يعود الشهداء من حمزة الخطيب إلى آخر شهيد”، أو “أن يعود كل حجر إلى ما كان عليه قبل عام 2011 م”، إلى ما هنالك من التعبيرات التي لا تطرح أفقا.
كلنا يعرف أن المصالحة مع النظام مستحيلة، فهي تتطلب شروطا يعجز النظام نفسه عن تلبية الحد الأدنى منها، وهذا ما غاب عن المحتجين ورافضي فكرة المصالحة. ولكن مشكلتنا هي في تقمص شخصية الزير سالم، ففي النهاية لا بد للحرب أن تنتهي، ولا بد أن نجد أنفسنا مع أشخاص كانوا يقفون في الطرف الآخر، وسنجد أنفسنا في مواقع العمل والمكاتب والمدارس وغيرها مضطرين للتعامل مع أشخاص ربما شاركوا بهذه الطريقة أو تلك في الآلة الحربية للنظام، فالمحاسبة –إن تحققت- لا يمكن أن تطول في الحالة السورية إلا نسبة ضئيلة، تشمل من أمر بارتكاب المجازر والجرائم بحق السوريين، ومن شارك على نحو مباشر وموثق في تلك الجرائم، ولكنها لن تطول عددا كبيرا ممن وقفوا مع النظام قولا وفعلا، لأن هؤلاء يشكلون نسبة معتبرة من المجتمع السوري، ولأنهم يعملون في مؤسسات ينبغي أن نحافظ على استمرارها، وعلى آلية عملها، لتسيير شؤون الناس، وهذه المؤسسات تتطلب –شئنا أم أبينا- وجود أشخاص من النظام فيها، وسيستمرون في أداء مهامهم إلى وقت غير معلوم. وحالتنا هذه ليست حالة فريدة، ففي ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، اضطرت الدول لغض الطرف عن الجزء البيروقراطي من النظام الهتلري لتسيير عجلة الدولة، وهذا ما سنجد أنفسنا أمامه في زمن لا شك أنه قادم.
مشكلة الثورة السورية في جزء كبير منها أنها نظرت من خلال عيني الزير إلى كل البنى المؤسساتية التي كانت موجودة من قبل، ولم تر فيها إلا وجه حافظ الأسد وبشار الأسد، في حين أن هذه البنى هي نتيجة عمل السوريين الشاق على مدى قرن من الزمن في إقامة دولة حاول النظام بكل ما يستطيع إنهاءها. فكعب أخيل في مؤسسات المعارضة هو محاولتها البداية من الصفر، كأن الثورة هي رفض لكل ما كان قائما، بدلا من أن تحاول وضع يدها على ما أبقاه النظام من مؤسسات ودوائر خدمية وتطويرها. حدث هذا في التعليم والصحة والعسكرة والبلديات وغيرها. هل أقول إن الكثيرين من الناس لم يسجلوا أولادهم في دوائر النفوس حين كان الانتقال بين المناطق سهلا وميسرا، لأن هذه الدوائر برأيهم دوائر أسدية؟
أعادت المظاهرات التي خرجت في الشمال السوري التوكيد على الروح الثورية التي لم تنل من عزيمتها كل الانكسارات والطعنات التي تلقيناها، ولكن المشكلة كانت في الشعارات العدمية التي طرحت، وقد آن الآوان أن نتحرر من عقلية الزير، ونرتقي إلى أفق كليب كما صوره الراحل ممدوح عدوان.
سليمان الطعان _ تلفزيون سوريا
