syria press_ أنباء سوريا
فيما يواصل سعر صرف الليرة السورية انهياره المتواصل، ليلامس عتبة 3600 لكل دولار أمريكي، مساء الأربعاء، وهو أدنى سعر في تاريخ الليرة على الإطلاق، تظهر تبعات هذا الانهيار بشكل متسارع على القدرة الشرائية لدخول السوريين المتهاوية، بصورة كارثية، وسط تساؤل ملحّ، يصعب أن تجد إجابة مقنعة بخصوصه: لماذا لا ترفع سلطات النظام سعر صرف “دولار الحوالات” عبر القنوات الرسمية والمُرخّصة؟
ذلك أن دخول الدولار عبر القنوات المُرخّصة، قد يعني زيادة عرض العملة الصعبة في السوق السورية، مما قد ينعكس تحسناً في سعر صرف الليرة، أو على الأقل، لجماً لتدهورها. ناهيك عن أن دخول الحوالات عبر القنوات المُرخّصة، الخاضعة لسيطرة مصرف سورية المركزي، سيتيح للأخير، أن يرمم الاستنزاف من العملة الصعبة في خزينته، إن اعتمد استراتيجية الاستئثار بالدولارات القادمة ضمن الحوالات، ومنح أصحابها ما يعادلها بالليرة السورية. وسيكون أصحاب تلك الحوالات راضين جداً، بإجراء المركزي، إن منحهم قيم حوالاتهم، بالليرة السورية، وفق سعر الصرف الرائج في السوق. وبذلك تتحقق مصلحة الطرفين، المركزي، والمواطن السوري المكلوم، الذي يعيش على ما يرسله له قريبه المُغترب أو المُهجّر.
لكن المركزي اعتمد بدلاً من ذلك، وعلى مدار معظم السنوات الثماني الماضية، سياسة غريبة، تقوم على فرض سعر صرف رسمي لـ “دولار الحوالات” يقلّ كثيراً عن سعر الصرف الحقيقي، الأمر الذي أدى إلى نشوء سوق سوداء قوية، توسعت على مدار السنوات الفائتة، لتستحوذ على معظم القطع الأجنبي المحوّل إلى سوريا. أضرّت هذه السياسة بطرفين، المركزي الذي خسر القطع الأجنبي المتأتي عن الحوالات الخارجية، وأصحاب الحوالات الذين يخضعون لابتزاز سماسرة السوق السوداء، ويحصلون على دولاراتهم بسعر صرف أقل من السعر الحقيقي، لكنه أفضل بكثير من السعر الرسمي.
وللتوضيح كمثال. يحدد المركزي منذ حزيران/يونيو الفائت، السعر الرسمي لصرف “دولار الحوالات”، بـ 1250 ليرة. أي ما يعادل 35% من قيمة الدولار الحقيقية في السوق، التي لامست الـ 3600 ليرة، مساء الأربعاء. فيما تُسلّم قنوات “السوق السوداء” “دولار الحوالات” الواحد، بأسعار تتراوح ما بين 3250 و3470 و3500 ليرة، وفق مصادر تحدثنا إليها، مساء يوم الأربعاء. أي أن سماسرة الحوالات في السوق السوداء السورية، يربحون في كل دولار واحد ما بين 100 إلى 350 ليرة سورية.
بينما يندر أن تجد من يحوّل مثلاً عبر “ويسترن يونيون”، الشركة العالمية المُرخصة في الداخل السوري، والتي تصرف “دولار الحوالات” بالسعر الرسمي، أي بـ 1250 ليرة لكل دولار. وهي الشركة التي يستفيد المركزي من الحوالات المرسلة عبرها، إذ يحصل على الدولارات مقابل أن يحصل أصحاب الحوالات على قيم حوالاتهم بالليرة السورية. فلماذا لا يرفع المركزي السعر الرسمي لـ “دولار الحوالات” ليصبح مثلاً بـ 3400 ليرة، على أن يتم تسليمها بالليرة عبر مكاتب شركة “ويسترن يونيون”؟ هكذا إجراء سيؤدي بطبيعة الحال، إلى تحول جزء كبير من أصحاب الحوالات، إلى التحويل عبر الشركة المشار إليها، وهو ما سيصب في مصلحة المركزي، فلماذا لا يقوم المركزي بذلك؟، ولماذا يصرّ منذ سنوات على استراتيجية اعتماد سعر رسمي لـ “دولار الحوالات” أقل بكثير من سعر الصرف الحقيقي؟
على هذا السؤال، الذي يبدو أشبه باللغز، تجد الكثير من الأجوبة، يقابلها الكثير من علامات الاستفهام، والتعجب أيضاً.
إحدى أشهر الأجوبة، تلك التي وردت على لسان الدكتور عابد فضيلة، رئيس هيئة الأوراق والأسواق المالية السورية، الخاضعة للنظام، والذي قال في حديث صحافي مع إذاعة “ميلودي إف إم”، الثلاثاء، بهذا الخصوص، إن المركزي يخشى إِذا رفع “دولار الحوالات” أن يرفع تجار السوق السوداء أسعارهم بالمقابل، وأن يضاربوا عليه، للاستحواذ على القطع الأجنبي المتأتي من الحوالات الخارجية. وهي الإجابة التي لطالما مررها مسؤولون محسوبون على النظام، طوال السنوات الفائتة. فالاعتراف بالسعر الحقيقي للصرف، ستكون كلفته أكبر من عائد تحصيل القطع الأجنبي المتأتي عن الحوالات. وتبدو هذه القناعة أشبه بالنظرية، التي لم تثبت صحتها على صعيد التطبيق العملي، في الحالات المشابهة. فمثلاً، في مصر، وعشية تعويم الجنيه المصري، في خريف 2016، كان هناك سعران لصرف الدولار مقابل الجنيه، سعر في السوق السوداء، وآخر أقل من نصف قيمته لدى الجهات الرسمية وتلك الخاضعة لها كالبنوك. وحينما تم تعويم الجنيه، ورُفع السعر الرسمي إلى حوالي الضعف، وتمت إتاحة المجال لبيع الدولار عبر البنوك ومكاتب الصرافة، من دون قيود معقّدة، اختفت بشكل شبه كامل، السوق السوداء، وتوحّد سعر الصرف. وبغض النظر عن الآثار السلبية لخطوة تعويم الجنيه المصري على القدرة الشرائية للمصريين، يبقى أن وجود سعرين للصرف، رسمي منخفض وآخر أعلى منه في السوق السوداء، حالة مشوهة، لا يمكن البناء عليها أبداً في أي مسعى للإصلاح الاقتصادي. التجربة ذاتها تكررت قبل أيام فقط، حينما اعتمدت الحكومة السودانية سياسة تعويم مُدار للجنيه السوداني، فأتاحت بيعه عبر المصارف، بسعر يقارب السعر الرائج في السوق السوداء، حيث قفز السعر الرسمي حوالي 7 أضعاف. وحتى ساعة كتابة هذه السطور، تؤشر النتائج الأولية، إلى تضعضع السوق السوداء، وربما اختفائها.
وبالعودة إلى الحالة السورية، قد تجد إجابة أخرى يقدمها القائلون بها بوصفها تفسيراً لإصرار المركزي بدمشق على الإبقاء على “دولار حوالات” رسمي منخفض للغاية. وهي أن “قانون قيصر” سيعيق أي حوالات بالقطع الأجنبي، ويمنعها من الدخول إلى سوريا. وبالتالي، نعود إلى المعادلة السابقة، وهي أن تكلفة الاعتراف بسعر الصرف الحقيقي، أعلى من عائد الحصول على القطع الأجنبي المتأتي من الحوالات. وهي أيضاً نظرية من غير المفهوم كيف تم تبنيها. إذ أن الشركة العالمية الوحيدة المُعتمدة في مناطق سيطرة النظام، والتي تعمل في مجال الحوالات المالية من مختلف دول العالم – ويسترن يونيون- هي شركة أمريكية. ولا توجد أية قيود على عملها، سوى القيد الذي يضعه المركزي ذاته، والذي يجبر الشركة على تسليم الحوالات بسعر الصرف الرسمي المنخفض للغاية. وحتى الآن، لا توجد قيود مفروضة على الحوالات المالية إلى سوريا، ضمن حِزَم قانون “قيصر” المُعتمدة.
لكن هناك إجابة ثالثة، حيال لغز “دولار الحوالات” الرسمي المنخفض للغاية، وإصرار المركزي عليه. إجابة قد تختصر المشهد في سوريا. إذ يقول العارفون بنشاط السوق السوداء، إن متنفذين ورجال مخابرات وشبيحة كبار، ينشطون في هذه السوق، التي تُدير أكبر القطاعات الخدمية في سوريا اليوم. فالاقتصاد السوري المتهاوي، بزراعته المنهارة، وصناعته المدمرة، وخدماته المُهشّمة، لم يبق فيه نشاط يستحق الاستثمار، حقاً، إلا المتاجرة بالعملة، وتمرير الحوالات والقطع الأجنبي مقابل عمولة. ذلك القطاع، وفق أولئك العارفين بهذه السوق، حسب وصف “عابد فضيلة” نفسه، يمثّل نشاطاً بملايين من الدولارات يومياً. ووفق تصريحات قديمة لحاكم مصرف سورية المركزي، الأسبق، أديب ميالة، فإن حصيلة الحوالات اليومية، كانت تتراوح ما بين 3 إلى 7 ملايين دولار. أي بحد أدنى، حوالي 100 مليون دولار شهرياً. أي ما يعادل 1.2 مليار دولار سنوياً. إنه قطاع مثمر للغاية، فكيف نريد من أصحاب القرار الحقيقي من المتنفذين داخل أروقة النظام، بأن يسمحوا للمركزي بالاستحواذ عليه؟ ببساطة، لغز “دولار الحوالات” يعلم إجابته، أصحاب القرار الحقيقي من المتنفذين داخل أروقة النظام، أولئك الذين يستثمرون بموارد السوريين، وأموالهم، وعلى حسابهم. أما أن يحلّق سعر صرف الدولار فتحلّق معه الأسعار، وتُلهب جيوب المُلتاعين من هذا الشعب.. فهذا آخر هموم مالكي جواب هذا اللغز. لغز “دولار الحوالات”، العصيّ على الفهم.
إياد الجعفري _ المدن