من الأمور التي فاجأت السوريين، بعد الثورة، أن مستوى ثقتهم ببعضهم البعض انخفض بدرجة كبيرة، إذ تبين لهم أن النخب غير معنية كثيرا بهموم الناس، وأن مؤسسات المعارضة لا تقل فسادا عن مؤسسات النظام، وأن اتباع طرق الخلاص الفردي هو السائد بين كثيرين، دون أن ننسى أن مستوى ثقتهم بقيم العدالة والخير والتعاون قد تعرض لضربة موجعة. وهذا المقال هو محاولة لتقصي أسباب تراجع ثقة السوريين ببعضهم، وجذور هذه السالبية التي أصبح يلاحظها القاصي قبل الداني.
يعد مفهوم الثقة الاجتماعية من المفاهيم الأساسية في الثقافة السياسية. وقد بين عالم السياسة بيتر ميركل أن مشكلة غياب الثقة بين الناس، في مجتمع ما، تجعلهم قليلي التعاون مع بعضهم البعض، وكثيري التشكك بأخلاق كل من يتعاملون معه، وميالين على اتهامه بكل أنواع الشرور، حتى لو كانت تلك الشرور من بنات أفكارهم. ومن المعروف في أوساط الدارسين للأنظمة التسلطية والشمولية أنها تجهد من أجل أن يكون مبدأ عدم الثقة هو أهم المبادئ التي توجه سلوك الناس، لأن الشعوب التي لا تشعر بالثقة يسهل اختراقها، مثلما أنهم يفكروا بمصالحهم الشخصية أكثر من تفكيرهم بمصالح الكل الاجتماعي، سواء كان هذا الكل وطنا أو مؤسسة أو حتى مدرسة. وذلك بعكس المجتمعات الديمقراطية التي ترتفع فيها درجة ثقة الناس بدولهم وقوانينهم، وأحزابهم، وبرلمانييهم، وبولسيهم.
في سوريا الأسد لا يثق السوري بالمسؤولين ولا بالقوانين ولا بـ “الدولة” بكل عجرها وبجرها. بل إنه تعود التحوّط من ” الدولة” وكل مؤسساتها، لأنه يعرف أن القوانين تريد أن تنظم الأمور، ولكنه يعرف أيضا أن ذلك في غالب الأحيان يحدث على حسابه، ويعرف أن الأمن والشرطة يريدان أن يحفظا السلام له، ولكن حقوقه وسلامته هي آخر ما يفكرا به، ويعرف أن المصارف الزراعية والصناعية والتجارية تريد أن تقدم له القروض الميسرة، ولكن لا تبالي فيما إذا دفع ربع القرض لتسهيل الحصول عليه. وأن المدارس تريد تعليم أولاده مجانا، ولكنه يدرك بالوقت نفسه أن عليه دفع أكثر من نصف راتبه للمعلمين الخصوصيين بسبب فساد تلك المدارس.
عدم الثقة هذه سرعان ما انتقلت من عدم ثقة متجهة إلى “الدولة” إلى عدم ثقة متجهة إلى كل شيء. ناهيك عن انتشار عدم الثقة على أساس ديني أو طائفي أو قومي، حيث تتحول الشكوك إلى أدوات تزيد في الشروخ الاجتماعية، وتدفع كل فئة إلى التكوّر على هويتها الخاصة، والتشكيك في الهويات الأخرى.
ما نريد أن نقوله من كل ما سبق أن ثقافة عدم الثقة بالآخرين، والتشكك بهم وبأفعالهم وبنواياهم، هو سلوك اكتسبناه من طريقتنا في التكيف مع نظام الأسد، وقد انتفضنا على تلك الطريقة عند أول فرصة سنحت لنا، ولا يجوز اليوم أن نعود إلى طرق في التفكير أجبرنا النظام على اتباعها لتحميلنا مسؤوليات فساده.
الذي لا يثق بالآخرين لا يستطيع أن يفكر بطريقة سليمة اجتماعيا. فالأصل في التفكير الاجتماعي، بحسب علم النفس الاجتماعي، هو الثقة بالآخرين والمحيط الاجتماعي، لأن الثقة هي التي تعطي الفرد الدافعية في العمل والسلوك وتخلق للحياة أهدافا في النهاية. بل إن الشخصية المتشككة كثيرا ما تقع فريسة سهلة لمحترفي النصب والاحتيال، لأنها، ولحماية نفسها مما تعتقد أنه يثير الشكوك في الآخرين البعيدين، تلجأ إلى تسليم عقلها ومشاعرها لقريبها ونسيبها وابن طائفتها، كنوع من التعويض، وهنا يتحول الفرد إلى شيك مفتوح يكتب عليه الآخرون ما يريدون.
ضعف الثقة بالآخرين يجعل المرء ميالا للانسحاب من الحياة الاجتماعية / السياسية تحت ضغط الشعور بلا أخلاقية الآخرين وشيطنتهم. مثلما يقتل الشعور بالمبادرة لدى الناس لأنه يجعلهم يعتقدون أن هؤلاء الآخرين لا يستحقون أي مبادرة من قبلهم، بل إن خطورته تتضح عندما يتسلل شعور لدى المرء بأن الناس يستحقون ما يحصل لهم، وهو ما يتجلى في بعض أنواع الخطاب الوعظي الساذج الذي يلخص مجمل الأمر بأننا نستحق ما جرى لنا لأننا لا نحب بعضنا أو لا نتمنى لبعضنا الخير.
يضاف إلى ذلك أن بعض الشكاكين ميالون إلى الإقامة المريحة في “برجهم العاجي” الذي يحسبون أنه يطهرهم من رجس المجتمع وتحاسد الناس وتغايرهم. وهذا النموذج، في حقيقته، فاقد الأمل بالمستقبل، وغير مكترث إلا بنجاحه الشخصي ومستقبل عائلته، ولذلك فإن حصول ابنه على درجات عالية في الإعدادية أهم عنده من سقوط بشار الأسد شخصيا.
ما نريده مما قلناه للتو أن الأخلاق عامل رئيسي في الثقافة السياسية للأمم. حتى عالم الاجتماع الأميركي إدوارد بانفيلد جعل من عدم الثقة والأنانية أهم العوامل التي تؤدي إلى ظهور الفقر في المجتمع، وانزلاق المزاج العام نحو نوع من “القدرية السوداوية”. وعلى عكس ثقافة التشكك والأنانية وعدم الثقة فإن الثقافة السياسية التي ترافق الثورات، وتساندها، هي ثقافة المبادرة، والثقة بالآخر والعدل والمستقبل، والشعور بتحمل المسؤولية.
الأخلاق التي تهم السياسة هي أخلاق الشعوب لا أخلاق الدول ومصالحها، أي الأخلاق بين الناس وعبر تعاملهم مع بعضهم. الأخلاق السياسية التي تجعل الفرد يدرك نفسه بأنه جزء من مجتمعه مثلما مجتمعه جزء منه، وأن لا مستقبل لأحدهم من دون الآخر. فالثقة بالآخرين هي عملية وعي، وثقافة سياسية، وروح عالية من المسؤولية وليست مجرد تراشق في التهم وفشة خلق.
رشيد الحاج صالح _ تلفزيون سوريا