ما تزال مفاعيل زيارة الوفد الأمريكي بقيادة السيناتور الأمريكي، ليندسي غراهام، ترخي بظلالها على الوضع في شمال شرق سوريا وغربها، وما تزال أصداء رفض قوات سوريا الديموقراطية لتلك المبادرة بمجلسيها “قسد” و”مسد” تتردد أيضاً، رفض أتى بعد ارتياح محلي وإقليمي لزخم التدخل الأمريكي بعد انقطاع طويل، ومحاولة إيجاد حل يبعد شبح الحرب، ويطفئ فتيل اشتعالها في مناطق لم تهدأ بعد من ارتدادات العنف والقتل الذي مارسته كل سلطات الأمر الواقع، وأكثرها ميليشيات أسد.
الوفد الأول كان وفداً عسكرياً – استخباراتياً ضم قادة وضباطاً فرنسيين وبريطانيين وأمريكيين، وصل إلى مدينة “منبج” التي يسيطر عليها مجلس منبج العسكري كواجهة عربية بتبعية مطلقة لقوات “قسد”، ومن خلفهم حزب العمال الكوردستاني “pkk”، واجتماع الوفد المشترك مع أعضاء المجلس العسكري، وفيه طرحت عدة نقاط جوهرية، وكان واضحاً أن الوفد على اطلاع كامل بمشاكل المنطقة وحيثيات الوضع في مدينة منبج ومحيطها رغم صغر مساحة المنطقة وتداخل النفوذ في تلك المدينة ما بين روسي وإيراني وميليشيات أسد ونفوذ أمريكي وغربي إضافة لقوات مجلس منبج العسكري، مع ما يقابلها في الضفة الأخرى من وجود للجيش التركي وحليفه الجيش الوطني التابع للمعارضة السورية.
الوفد العسكري الاستخبارتي المشترك أوصل رسالة واضحة لمجلس منبج العسكري حملت استياء أمريكياً من التقارب الحاصل بين قيادة “قسد ومسد” مع النظام السوري، وأكدت أنه على قيادة قسد تحجيم الوجود الروسي في المنطقة وعدم ترك حرية المناورة لقواتهم والأفضل مرافقتهم بكل تحركاتهم، مع اتخاذ كل ما يلزم لمنع تعزيزات النظام لميليشياته في المنطقة لأن من بين تلك التعزيزات هي ميليشيات تتبع لإيران بلباس جيش أسد، وهذا يسبب لنا القلق من هجمات إيرانية على قوات التحالف في قاعدة “خراب عشق” وقاعدة “لافارج” على ضفة الفرات الشرقية القريبة من “منبج”، والتحالف لا يريد تكرار تحرشات إيران بقواتنا كما يحصل في حقلي “كونيكو والعمر”، قرب مدينة دير الزور، مع تعهد للتحالف بتقديم دعم عسكري من احتياطاته الموجودة في المنطقة خلال 48 ساعة، وغير المتوفر من السلاح والذخائر سيقدم بمجرد وصوله من الخارج، وأن التحالف لن يسمح للطيران التركي باستخدام المجال الجوي شمال شرق سوريا وفوق منبج، لكن بشرط التزام مجلس منبج العسكري بالتعليمات السياسية التي سيتم نقاشها مع قيادتكم السياسية، والتي تتضمن مقترحاً لحل شامل ينهي الصراع بين قسد والجيش التركي، يقابله تعهد من قسد وأتباعها من مجالس بإبعاد قيادات الـ pkk عن مناطقها وعن الحدود التركية، وستتم العودة لتطبيق اتفاق 2019 المعقود مع الحكومة التركية، وعليكم عدم استفزاز الجانب التركي أو الجيش الوطني والتحالف يتكفل بالباقي، وأن التحالف يعكف حالياً على دراسة إنشاء منطقة عازلة بين الحدود التركية الجنوبية وبين مناطق انتشار قوات “قسد” وسيتكفل التحالف بالمراقبة والتطبيق شراكة مع الجانب التركي.
بالمقابل، طلب مجلس منبج من الوفد وقف هجمات طائرات “درون” التركية، (تم الرد عليها أنها تهاجم قيادات قنديل وهناك تفاهم أمريكي تركي حول الأمر)، وطلب دعم قوات “قسد” في بلدات منغ وتل رفعت ومحيطها، (رفض الوفد المشترك هذا الطلب مبرراً أنها مناطق تقع تحت النفوذ الروسي ولا علاقة للتحالف الدولي بدعمها، وأن التحالف كان يراقب عمليات نقل أسلحة وذخائر من قبل قسد لتلك القوات وأن الفرقة الرابعة التابعة للأسد وميليشيات إيرانية كانت تحصل على قسم كبير من العتاد كرشوة منكم مقابل تمريرها لمنغ وتل رفعت وهذا الأمر مرفوض من قيادة التحالف).
اجتماع الحسكة
على الضفة الأخرى، وفي مدينة الحسكة، كان هناك وفد رفيع المستوى بقيادة السيناتور الأمريكي، ليندسي غراهام، وقائد قوات التحالف، بدءا جولة إقليمية شملت تركيا وانتقلت لكوردستان العراق ومن ثم حطت رحالها في مدينة الحسكة، وفي الاجتماع مع قيادة قسد ومسد نوقشت بنود مبادرة أمريكية تهدف لوقف فتيل الاشتعال ومعارك يتحضر لها الجانب التركي وحليفه الجيش الوطني، يرافقها تسخين عسكري شمل كل أركان المنطقة، ومعها أصبحت الجبهات الممتدة ما بين عين العرب “كوباني” على الحدود التركية وعين عيسى “جنوباً” ومناطق منبج ومنغ وتل رفعت “غرباً” أشبه بقلاع عسكرية أنشئت لها غرف عمليات جديدة بتحالفات جديدة (إيران، أسد، قسد)، وكلها تتحضر لمعركة يتواجد مفتاحها وساعة صفرها لدى صاحب القرار في أنقرة.
زيارة السيناتور الأمريكي التي بدأت بتفقد منشآت سجن “غويران” في الحسكة، والذي تعرض لهجمة داعشية مؤخراً كادت تخرج أكثر من 4 آلاف سجين للتنظيم من جدرانه، ثم عاد الوفد للالتقاء مع قيادة قسد، والخطاب الأمريكي كان واضحاً، أعلم في بدايته قيادة قسد أن عليها أن تٌدرك أن تعامل الولايات المتحدة الأمريكية مع الجانب التركي يأتي في إطار التعاطي ما بين دولة ودولة، وتربطها بتركيا روابط غاية بالأهمية بدءاً من شراكتها بحلف الناتو، مروراً بكثير من الملفات التي تجمع الإدارة الامريكية مع الحليف التركي، مؤكداً أن المنطقة تمر باستحقاقات هامة، ومن واجبنا منع انشغال الحلفاء بصراعات جانبية، وما نطرحه هي مبادرة اللحظات الأخيرة، وقسد تشكل بالنسبة لنا شريك مهم في محاربة الإرهاب والتنظيمات الإرهابية، وعليكم اتخاذ خطوات جريئة وقد تكون مؤلمة لكنها ضرورية لمنع الحرب، وأن هناك اجتماع قد يتم عقده في مدينة “أربيل” العراقية بين وفد تركي ووفد من قسد وبرعاية التحالف الدولي لإنهاء حالة الصراع على الحدود الشمالية السورية، (والمعلومات تؤكد أن الجانب التركي وقيادة حكومة “كوردستان” داعمة للمبادرة الأمريكية).
التصريحات التي خرجت عقب الاجتماع عن رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي “العائد”، صالح مسلم، لم تكن موفقة، وهجومه على الجميع (الولايات المتحدة الأمريكية، الاتحاد الأوروبي، روسيا الاتحادية)، واتهامهم بالرضوخ لضغوطات الرئيس التركي “أردوغان”، ومن ثم إعلان قيادة قسد حالة الطوارئ في مناطقها، والمسارعة لعقد اجتماعات جديدة مع نظام الأسد وإيران برعاية روسية، وإنشاء غرف عمليات مشتركة والاتفاق على تفاهمات تسمح للنظام بالتغلغل داخل مناطق سيطرة قسد. كلها إجراءات لم توفق فيها قيادة قسد ومسد وحزب الاتحاد الديمقراطي.
ثم خرجت بعض قيادات مجلس منبج العسكري بخطاب يغير من جو النقاشات التي حصلت باجتماع منبج، فقد أكد القيادي في مجلس منبج العسكري، عبد الرحمن البناوي، نفي جميع الشائعات التي أطلقتها وسائل التواصل الاجتماعي حول مدينة منبج، مضيفاً بأن الاجتماع الذي دار بين مجلس منبج العسكري ووفد من التحالف الدولي، كان قد أكد فيه وفد التحالف لدولي دعمه لقواتنا، وأن الوفد أتى إلى مدينة منبج متحدياً التهديدات التركية كونها تهدد بشنّ حملة عسكرية على مدينة منبج.
كما أكد بأنّ “التنسيق مستمر والعمل جار على محاربة تنظيم داعش وخلاياه النائمة وجمع المعلومات عن عناصر وقيادات تنظيم داعش الموجودة في مناطق سيطرة الاحتلال التركي، كما وتعهد الوفد باستمرار تقديم الدعم اللوجستي لقواتنا”.
وحول الاتفاقيات مع حكومة دمشق، قال القائد العام لمجلس منبج العسكري، محمد أبو عادل، بأن هذه الاتفاقيات عبارة عن مذكرات تفاهم تم بموجبها نشر قوات حكومة دمشق على خطوط الجبهات وليس في المدينة”.
الواضح أن قيادة قسد لم تتعظ من الدروس السابقة في عمليات “درع الفرات، غصن الزيتون، نبع السلام”، وبكل تلك المعارك كان هناك دعم إعلامي لقسد من الأمريكان والروس والإيرانيين ونظام أسد، وأحياناً كانت هناك تعزيزات عسكرية، لكن ومع أول طلقة من الجيش التركي أو الجيش الوطني كان مقاتل قسد يجد نفسه وحيداً في المعركة، ويصبح أمام أحد خيارين: إما متابعة القتال وتحمل خسائر كبيرة أو الانسحاب.
متى تستوعب قسد الدرس؟
الولايات المتحدة الأمريكية تدرس خطواتها وهي تعلم أن هناك تغيرات جوهرية قادمة على المنطقة، والجميع يعلم أن استحقاقات الصدام الروسي الأمريكي في أوكرانيا قد أرخت بظلالها على الوضع في سوريا، وأن بناء تحالفات جديدة وسحب بعض الحلفاء من الحضن الروسي قد يكون مطلباً رغم أثمانه الباهظة، وبهذا الظرف بالذات لا تستطيع الولايات المتحدة الأمريكية التفريط بعلاقتها وتحالفاتها مع أنقرة كرامة لعيون “قسد”. فـمتى تدرك قسد تلك الوقائع؟ ومتى تعول “قسد” على السياسة وتستجيب للمبادرات أكثر مما تعول على البندقية والتحالفات الهشة والخلبية؟ علماً أن “قسد” تدرك تماماً أن تلك البندقية لن تصمد كثيراً.
أحمد رحال _ ليفانت نيوز