syria press_ أنباء سوريا
في زمن الإعلام الرقمي، ترى اليوم العجب العجاب. مهرّجون تحولوا مشاهير ومرجعيات. وهرطقات سخيفة يقتبسها كثيرون على أنها معلومات مُوَثَّقَةٌ وتحليلات رصينة. وجماهير تعد بعشرات الألوف، بل مئاتهم. والأدهى أن يناطح رُوَيْبِضَةٌ قامات علمية أو فكرية أو أكاديمية باسقة، محاججاً إياهم، بل وزاعماً نقض أفكارهم وطروحاتهم ونتاج خبراتهم. الرويبضة هو تعبير نَبَوِيٌّ جاء في حديث شريف، يُوَصِّفُ الحال السابق الذي قدمنا به، وفيه: “سيأتي على الناس سنوات خداعات، يُصَدَّقُ فيها الكاذب وَيُكَذَّبُ فيها الصادق، وَيُؤتَمَنُ فيها الخائن وَيُخَوَّنُ فيها الأمين، وَيَنْطِقُ فيها الرويبضة. قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة” (الإمام أحمد). إذا لم يكن هذا توصيفاً لواقع الحال، فماذا يكون؟
من حق كل إنسان أن يكون له رأيه وتحيزه الإيديولوجي والسياسي الخاص. كما من حق كل شخصٍ أن يعبر بحرية عمَّا يؤمن به ويتبناه. لكن أن يزعم المرء أنه متخصّص في أمر لا يفقه فيه شيئاً، ويحاكم أصحاب التخصص والخبرة، في سياق من التفاهة وسلاطة اللسان والوقاحة، فذلك أمر آخر. أكبر من ذلك أن ترى هؤلاء السخفاء يَهيمونَ في كل علم وتخصّص، لا يفرق عندهم أن يكون موضوعاً دينياً أو علمياً أو فلسفياً أو لغوياً أو فكرياً أو سياسياً معقداً. وهم فوق ذلك لهم أتباع ومؤيدون لا يحصون. أما ثالثة الأثافي فهي أن تجد بين معجبي هؤلاء المهرّجين أشخاصاً كنت تحسبهم مثقفين واعين، يروّجونهم، ويحيلون في معلوماتهم إليهم، ويعتمدون في تحليلاتهم عليهم. إذا كان هؤلاء المهرّجون يدخلون في سياق “الرجل التافه يتكلم في أمر العامة”، فكيف لنا أن نصف أولئك الذين يعدّون أنفسهم نخباً وهم يتبعون تفهة جُهَّالاً؟
كثيراً ما تقف مشدوهاً وأنت تتابع بعض تلك النماذج من الرويبضات يسرحون ويمرحون في فضاءات وسياقات تكاد تختنق حسرة وكمداً على عِلْمٍ يُهان وأخلاق تداس. ذاك يحاكم كتاباً لمفكر معروف يشهد له أصالة نتاجه وعميق طرحه، وينتهي إلى أن عملاً من أعماله منتحل! هكذا وبزفرة واحدة تجد عشرات الآلاف من المعجبين والمؤيدين لجريمة اغتيال معنوي. وآخر يَخْتَلِقُ أحداثاً وسيناريوهات خيالية في تحليل حدث سياسي خطير، بحيث تشعر وكأنك أمام فيلم رديء الإنتاج والحبكة الدرامية. أما إذا انتقدت شطحاته فالتهمة جاهزة: أنت تغار منه! وثالث يقدّمه بعض الإعلام الذي كنت تحسبه جادّاً ورصيناً، على أنه “خبير” في الشؤون الفلانية والفلانية، حتى وإن كان يتحدّث من مرحاض دكانه! المشكلة أن ما يقدّمه من “معلومات” و”تحليلات” هي الخَبَلُ ذاته، إذ إنها تقوم على معطيات خاطئة وفرضيات غير صحيحة. ورابع يصرّ على لازمة “خبير استراتيجي”، من دون أن يتجرأ أحد أن يسأل خبيرا استراتيجيا في ماذا؟ وخامس ينتحل صفة تدريس في جامعة أو درجة الدكتوراة، أو أنه يصمت تواطؤاً وهو يُعَرَّفُ بهما صباح مساء من دون أن يحاول تصحيح الأمر، هذا إذا افترضنا جدلاً أن الخطأ هو من الجهة المُسْتَضيفَةِ. وسادس يظن أن شهادة في الطب العام أو غيره تؤهله أن يكون خبيراً في الأوبئة والأمراض المعدية وعلم اللقاحات، ومن ثمَّ تراه يَتَجاسَرُ، أو إن شئت الدقة فقل يَتَواقَحُ، وهو يصول ويجول في الحديث عن نظريات المؤامرة في وباء كورونا واللقاحات المعروضة. لا أجزم بسلامة اللقاحات وعدم وجود أعراض جانبية لها، ولكني لست أهلاً للحديث في الأمر بحكم التخصّص.
ما سبق ليس مبالغات ولا تهيؤات، بل هي حقائق صادمة وَمُرَّةٌ نعيش معها كل يوم، ولولا مخافة إثارة حزازات لسميت أسماء بعينها. وكما سبق القول، فإن المسؤولية لا تنحصر في الرويبضات، بل في من يُمَكِّنُ لهم ويروج سفاهاتهم، خصوصاً في بعض وسائل الإعلام التي يظنها الناس جادّة ورصينة، وبالتالي تكون متواطئة في خداع الناس وتجهيلهم.
وجدت نفسي غير مرة في برامج تلفزيونية مشتركة مع أشخاصٍ عرب من هذا الطراز. أحدهم يُقَدَّمُ دائماً على أنه أستاذ قانون في جامعة أميركية عريقة وعضو في أحد المجالس الاستشارية للرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب. تقصّيت عن الرجل بعد أن فوجئت بمستوى “تحليله” الضعيف، فلم أجد له ذكراً لا في الجامعة المعنية، ولا غيرها، ولا في أي مجلس استشاري رئاسي. اللافت أني وجدت أن صحافياً أميركياً يعمل في موقع غير مشهور كان قد واجهه يوماً بهذا الانتحال، فما كان منه إلا أن أجابه بأنه لم يزعم صفة الاستشارية، وأن هذا خطأ من يقدمونه. المشكلة هنا أنه لم يحاول يوماً أن يصحّح ذلك “الخطأ”، بل يبدو دوماً مزهوّاً به. أما المصيبة الأكبر فهي إني عندما حاولت أن أنبه بعض المحطات التلفزيونية التي تربطني بها علاقة وثيقة إلى هذا الخلل، قيل لي من بعض العاملين فيها إنهم مضطرون إلى مسايرة هذا الدجل، حتى يظهروا بمظهر من استقطب شخصية رفيعة في الإدارة الأميركية! قس على المنوال السابق ذلك الشخص الذي كثيراً ما يزعم أنه التقى مسؤولين أميركيين كباراً وناقش معهم قضية بلاده، على الرغم من أنه لا يتكلم الإنجليزية أصلاً. وفي أحيان أخرى، أشار إلى مُحاججات وقعت بينه وبين مسؤولين آخرين في لقاءات، كنت فيها، وشاركنا جميعاً عبر تقنية الفيديو كونفرانس بسبب كورونا، وأقسم أنه لم ينبس ببنت شفة!
درجة الدكتوراة أو الموقع الوظيفي لا يصنعان وحدهما قيمة المرء وما يطرح، بل قيمة الطرح، بالدرجة الأولى، تكون في عمقه ورصانته. وما دام فينا من ما زال يقتنع بخزعبلات التافهين من الناس وحماقاتهم وتدليسهم ودجلهم، وما دام بقي فينا من يروّجهم إعلامياً وعلى مستوى من يفترض أنهم من النخب، فإننا سنبقى ندور في دائرة الجهل والتخلف. وبالمناسبة، هذه ليست مشكلة حصرية عند العرب، وواحدة من الأمور التي تعلمناها من سنوات ترامب الرئاسية الأربع، وما زلنا، أن الرويبضات موجودون في كل ثقافة ومجتمع.
كلمة أخيرة، لا يعيب المرء إن لم يكن تلقى تعليماً عالياً، أو إن لم يكن من أهل الاختصاص والرأي والمكانة، لكن ما يعيبه أن يزعم ذلك لنفسه وهو مجرد خواء. أيضاً، يعيب بعض أصحاب التخصصات المحدّدة أن يُنَصِّبوا أنفسهم مراجع في كل أمر وشأن، على الرغم من أن نتاجهم في مجالاتهم يدخل في سياق سَقَطِ المَتاع.
أسامة أبو أرشيد_ العربي الجديد