وضعت روسيا ثقلًا كبيرًا في سوريا منذ تدخلها العسكري، في 30 من أيلول 2015، بذريعة محاربة تنظيم “الدولة الإٍسلامية”، لتقلب آنذاك المعادلة في ساحة المعركة، وتعيد ترتيب الخريطة على أساس القوى المسيطرة ميدانيًا، بعد فقدان النظام السوري السيطرة على مساحات واسعة من رقعة الجغرافيا السورية.
ولم تلتفت موسكو لبيان الإدانة الذي أصدرته كل من الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا وفرنسا والسعودية وقطر وتركيا، ضد هجمات روسية طالت مدنيين في المدن السورية، ودعت خلاله إلى “وقف اعتداءاتها (روسيا) على المعارضة السورية والمدنيين فورًا”، وتركيز جهودها على مكافحة تنظيم “الدولة”.
وخلال سبع سنوات من التدخل الروسي الذي تسبب بمقتل ستة آلاف و943 مدنيًا، بينهم ألفان و44 طفلًا، وفق بيانات “الشبكة السورية لحقوق الإنسان“، حققت موسكو مكاسب على أكثر من مستوى، كما أخذ هذا التدخل أشكالًا وأبعادًا مختلفة، ومر بالعديد من المتغيرات وعوامل التأثير التي رسمت صورة جديدة للحضور العسكري الروسي في سوريا، وأثّرت في صورة موسكو على مستوى حضورها الدولي.
عنب بلدي تناقش مع باحثين ومحللين سياسيين مطلعين، حجم المكاسب الروسية في سوريا، وأولويات موسكو في المنطقة، في الوقت الذي تفتح فيه جبهة أخرى مع الغرب عبر أوكرانيا.
مؤثرات عسكرية
بأكثر من 100 ألف طلعة جوية روسية، حتى آب 2021، وفق أرقام قائد القوات الجوية الروسية الموفدة إلى سوريا، يفغيني نيكيفوروف، التي قدمها على هامش احتفالية للقوات الروسية في قاعدة “حميميم” الجوية بريف اللاذقية، في 12 من آب، بمناسبة الذكرى الـ109 ليوم الطيران القتالي الروسي، أنعشت روسيا سيطرة النظام على الأرض إثر دخوله حالة موت سريري.
هذه الحالة يتطلب إخراج النظام منها استخدام وتجريب 231 نوعًا من أكثر الأسلحة الروسية في سوريا، في الفترة الممتدة بين بداية التدخل وآذار 2021، وفق ما ذكره موقع “مليتري فايلز” الحربي الروسي، في تقرير صادر في 4 من الشهر نفسه.
وبعد استعادة السيطرة على مساحات واسعة، انتزعها قصف النظام وحليفه الروسي من قبضة المعارضة السورية، تتجه أنظار النظام والروس نحو طريق التجارة الدولي اللاذقية- حلب (4M)، وعقدته مدينة سراقب، التي تعتبر آخر نقاط سيطرة النظام على الطريق نفسه.
الاستهدافات المتكررة للآليات العسكرية الروسية، التي كانت تخرج مع دوريات تركية، كسرت قدم الروس عن هذا الطريق، بعد استعادتهم أصلًا طريق دمشق- حلب (5M)، عام 2019، قبل اتفاقين غامضين بين روسيا وتركيا، أوقفا معارك طويلة قد تؤثر على جغرافيا المنطقة، وهوية القوى المسيطرة فيها.
الباحث في شؤون الجمهوريات السوفييتية السابقة والعلاقات الروسية- التركية الدكتور باسل الحاج جاسم، شكّك في حديث إلى عنب بلدي بحقيقة ما يُشاع عن تراجع الحضور العسكري الروسي في سوريا.
كما اعتبر أن أولويات موسكو لا تزال ثابتة فيما يتعلق بفتح طريق “4M”، مبينًا أن خطوة من هذا النوع، ستحقق في حال حصولها خدمة لا لروسيا فقط، بل ولشركائها في مسار “أستانة” تركيا وإيران، لافتًا في الوقت نفسه إلى ما وصفها بـ”الأولوية الجديدة القديمة” لروسيا وتركيا، وهي انسحاب القوات الأمريكية من الأراضي السورية.
هذا الرأي يتعارض مع وجهة نظر الباحث السوري سنان حتاحت، الذي يرى أن موسكو تبحث عن مخرج في سوريا، مقرون بحفاظها على المكتسبات السياسية، دون تغيير الخارطة الأمنية والسياسية في سوريا، على المستويين الإقليمي والدولي.
روسيا منشغلة بأوكرانيا
جرى الحديث منذ بداية “الغزو” الروسي لأوكرانيا، في 24 من شباط الماضي، ولأكثر من مرة، عن استعانة موسكو بنفوذها العسكري في سوريا، وتسخيره لخدمة الجبهة الجديدة مع أوكرانيا.
وبدا ذلك عبر تقرير نشرته منظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة”، في 4 من آذار الماضي، يتحدث عن تحضير سوريين للمشاركة في الحرب لمصلحة موسكو، الأمر الذي قوبل حينها بتشكيك أمريكي على لسان المبعوث السابق لوزارة الخارجية الأمريكية الخاص بالشؤون السورية، جويل ريبورن، الذي أشار، في 7 من الشهر نفسه، إلى غياب أي أدلة على أن قوات النظام لديها “مقاتلون ماهرون بالقتال في المناطق الحضرية”، أو لديها مهارات من أي نوع، باستثناء تهريب المخدرات.
ما ذكره المبعوث الأمريكي السابق، جاء تعقيبًا على مادة نشرتها صحيفة “وول ستريت جورنال“، تحدثت عن تقييم أمريكي يفيد بأن موسكو التي تقاتل إلى جانب النظام السوري منذ عام 2015، جنّدت مقاتلين من سوريا، على أمل أن تساعد خبرتهم في القتال ضمن المناطق المدنية في السيطرة على العاصمة الأوكرانية، كييف، وتوجيه ضربة “مدمرة” للحكومة الأوكرانية.
من جانبه، استبعد الباحث في معهد “الشرق الأوسط” تشارلز ليستر خطوة من هذا النوع، معتبرًا “جلب سوريين إلى أوكرانيا يشبه إحضار سكان المريخ للقتال على القمر، فهم لا يتحدثون اللغة، والبيئة مختلفة تمامًا”.
الأمور لم تقف عند هذا الحد، ففي نيسان الماضي، ذكر موقع “The Moscow Times”، وهو موقع إلكتروني لصحيفة كانت تصدر بشكل دوري كل ثلاثة أشهر، أن موسكو تتجه لتقليص قواتها في سوريا، (أكثر من 60 ألف عسكري نصفهم من الضباط وفق الموقع)، مبررًا التخفيض بمتابعة العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا.
كما أن صورًا نشرتها شركة الاستخبارات الفضائية الإسرائيلية “ImageSat International”، في 26 من آب الماضي، أظهرت تفكيك نظام الدفاع الجوي الروسي “S-300″، المتمركز منذ سنوات قرب مدينة مصياف، شمال غربي سوريا، وشحنه إلى روسيا، وفق ما نقلته صحيفة “تايمز أوف إسرائيل” الإسرائيلية.
التقارير من هذا النوع تتابعت أيضًا، وصولًا إلى الحديث عن سحب موسكو “وحدات فوج المظليين 217” (أُسس في أربعينيات القرن الماضي) من سوريا، في سبيل تجنيدهم للقتال في موسكو، وفق ما نقلته مجلة “نيوز ويك” الأمريكية الأسبوعية (أُسست عام 1933)، عن هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الأوكرانية، في 20 من أيلول الماضي.
احتمالات الفراغ
الدكتور باسل الحاج جاسم، أشار إلى صعوبة الحكم على مدى صحة الحديث عن تشكل فراغ أمني روسي ضمن أكثر من منطقة (سوريا منها)، جراء “الغزو” الروسي لأوكرانيا، معتبرًا أن الحرب في أوكرانيا لا تزال في مراحلها الأولى.
كما أن الصراع الأكبر بين روسيا والغرب لم يدخل بعد مرحلة “من سيصرخ أولًا”، مشيرًا في الوقت نفسه إلى أن روسيا كسرت عبر البوابة السورية العزلة الدولية التي تعرضت لها بعد عام 2014، بسبب الأزمة في أوكرانيا وضمها شبه جزيرة القرم.
وبعد تدخلها العسكري المباشر في سوريا، بات معظم زعماء العالم، ولا سيما من الشرق الأوسط، يقصدون “الكرملين” في زيارات متكررة، وحققت روسيا من ذلك العديد من الأهداف الاستراتيجية، وفشلت كذلك في تحقيق بعضها.
القطاعات الحيوية والسيادية في قبضة الروس
بعقود طويلة الأمد وقابلة للتجديد في قطاعات حيوية وسيادية، برزت ملامح الهيمنة والسطوة الروسية على الصعيد الاقتصادي والاستثماري في سوريا، بالترافق مع الدعم العسكري والسياسي.
ورغم نشاط بعض الشركات الروسية في سوريا منذ عشرات السنين، فإنه تصاعد بعد 2015، حين وقعت روسيا مع النظام عدة اتفاقيات، أتاحت لها السيطرة على مرفأ “طرطوس”، واستخراج الفوسفات والتنقيب عن النفط والغاز، وإنشاء صوامع للقمح، ومشاريع في مختلف القطاعات.
مرفأ لنصف قرن
في 25 من نيسان 2019، أعلن وزير النقل في حكومة النظام السوري، علي حمود، أن العقد مع شركة “ستروي ترانس غاز” (CTG) الروسية الخاصة، لمدة 49 عامًا، بشأن مرفأ “طرطوس” هو عقد استثمار لا استئجار.
حديث حمود سبقته، في الشهر نفسه، تصريحات روسية على لسان نائب رئيس الوزراء الروسي، يوري بوريسوف، الذي تحدث عقب لقائه رئيس النظام، بشار الأسد، عن تأجير النظام للمرفأ.
ونصّ العقد على “استثمار شراكة” في إدارة وتوسيع وتشغيل مرفأ “طرطوس”، وفق نظام عقود التشاركية بين القطاعين، العام والخاص، المعمول به في سوريا.
بوريسوف أكد، في كانون الأول من العام نفسه، أن الجانب الروسي يعتزم تطوير وتحديث عمل الميناء القديم، وبناء ميناء تجاري جديد، وتقدّر قيمة الاستثمار للسنوات الأربع المقبلة (منذ التصريح) بـ500 مليون دولار أمريكي.
كما لفت إلى خطط روسية في بعض المناطق السورية، لمد خط سكة حديد عبر سوريا والعراق لإنشاء ممر للنقل، يربط البحر الأبيض المتوسط بالخليج، ما يزيد من عمليات الشحن عبر الميناء المستأجر من سوريا.
الفوسفات بالأحضان
في نيسان 2018، صدّق بشار الأسد على العقد الموقع بين “المؤسسة العامة للجيولوجيا والثروة المعدنية” السورية، و”ستروي ترانس غاز” الروسية، لاستخراج الفوسفات من مناجم “الشرقية” في تدمر وسط سوريا، لمدة 50 عامًا، بإنتاج 2.2 مليون طن سنويًا، بعدما صدّق عليه “مجلس الشعب السوري” في آذار.
ونصّ الاتفاق المبرم على تقاسم الإنتاج بين الطرفين، لتكون حصة “العامة للجيولوجيا” 30% من كمية الإنتاج، مقابل 70% للشركة الروسية.
وبعنوان “أوروبا تشتري فوسفات ملطخة بالدماء من سوريا”، كشف تقرير صادر في حزيران الماضي، عن مجموعة صحفيين استقصائيين بقيادة “لايتهاوس ريبورتس” (Lighthouse Reports) و”مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد”، عن تصدير فوسفات بقيمة ملايين الدولارات من سوريا على يد شركة روسية خاضعة للعقوبات الأوروبية والأمريكية، شقت طريقها إلى أسواق الأسمدة الأوروبية منذ عام 2018.
وجاء في التقرير، أن السفن التي تحمل الفوسفات تخفي أنشطتها عبر إيقاف تشغيل أنظمة التتبع الخاصة بها في طريقها إلى ميناء “طرطوس” (المنطلق الرئيس لشحن الفوسفات في سوريا)، ثم تشغيل الأنظمة مرة أخرى عند رحلة العودة.
وكانت إيطاليا بدأت استيراد هذا الفوسفات في 2020، وبلغاريا في 2021، وإسبانيا وبولندا في وقت سابق من العام الحالي، ووفقًا لبيانات التجارة، كانت صربيا وأوكرانيا من العملاء الرئيسين أيضًا، إذ استورد البلدان فوسفاتًا سوريًا بقيمة تفوق 80 مليون دولار، منذ عام 2019.
الأسمدة مفقودة في سوريا.. روسيا تصدّرها
بعد هيمنة روسيا على فوسفات تدمر، وقّعت الشركة الروسية نفسها (ستروي ترانس غاز)، في تشرين الثاني 2018، مع “الشركة العامة للأسمدة” في حمص (أكبر مجمع صناعي كيماوي في سوريا ينتج عبر معامله الثلاثة الأسمدة الآزوتية والفوسفاتية، ويؤمّن حاجة القطاع الزراعي بشكل كامل)، عقدًا لاستثمار الشركة ومعاملها الثلاثة لـ40 عامًا قابلة للتمديد.
ونصّ العقد على إعادة الجانب الروسي صيانة المعامل الثلاثة، والتزامه بالحفاظ على إنتاجيتها وإيصالها للطاقة التصميمية خلال عامين، بحيث تبلغ حصة الشركة السورية من الأرباح 35% مقابل 65% للشركة الروسية، وفق بنود العقد التي نشرتها صحيفة “تشرين” الحكومية في 31 من تشرين الأول 2018.
اتفاقيتا “الأسمدة والفوسفات” منحتا الروس الهيمنة الكاملة على أهم مفصل حيوي في الاقتصاد السوري، إذ حوّلتا سوريا من دولة منتجة ومصدّرة للفوسفات والسماد إلى مستوردة، بعد تصريحات مسؤولين في حكومة النظام أكدت استيراد الأسمدة اللازمة للمزارعين، وعرقلة العقوبات المفروضة على سوريا لتأمينها.
الغاز والنفط أيضًا
قبل التدخل العسكري، وقّعت حكومة النظام، عام 2013، اتفاقية مع شركة “سيوز نفتا غاز” الروسية، للحفر والتنقيب عن النفط والغاز قبالة الساحل السوري، وفق عقد لمدة 25 عامًا.
وفي تموز 2015، أعلن الاتحاد الروسي لصناعة الغاز والنفط، عن مساعيه لاستثمار ما لا يقل عن 1.6 مليار دولار في عقود الطاقة، بعد أن “يصبح الوضع مستقرًا” في سوريا.
وبين أيلول 2019 وكانون الثاني 2020، وقّع النظام أربعة عقود جديدة للتنقيب عن النفط مع شركات روسية.
كما فرضت روسيا سيطرتها على حقل “الثورة” النفطي، جنوب غربي الرقة، الذي يقدّر إنتاجه حاليًا بنحو ألفي برميل نفط يوميًا، بعدما كان ستة آلاف برميل قبل عام 2010.
جاء ذلك بعد سيطرتها على حقل “توينان” للغاز في منطقة الطبقة بريف الرقة، الذي ينتج نحو ثلاثة ملايين متر مكعب من الغاز النظيف يوميًا، و60 طنًا من الغاز المنزلي، وألفي برميل من المكثفات.
مجلة “فورين بوليسي” كشفت عبر تقرير نشرته في أيار 2021، عن ضلوع شركة “فاغنر” الروسية للمرتزقة في العقود التجارية المتعلقة بالنفط والغاز مع حكومة النظام، إذ صدّق رئيس النظام السوري على صفقة تجارية مع شركة “كابيتال” الروسية للتنقيب عن النفط والغاز في مساحة 2250 كيلومترًا مربعًا، لم يحدد التقرير موقعها بدقة.
كما أبرمت شركتان على الأقل، وفق تقارير مرتبطة بـ“فاغنر“، صفقات نفط وغاز مع النظام، في أواخر عام 2019، ووافق “مجلس الشعب السوري” على عقود استكشاف وتطوير ثلاث كتل برية، يُعتقد أن كلًا منها تحتوي على 250 مليار متر مكعب من الغاز.
وتعتبر العقود المبرمة بمنزلة مكافأة لمجموعات المرتزقة التي قاتلت إلى جانب قوات النظام في عملياتها البرية “الأكثر وحشية” على الأرض، وفق المجلة.
السياسة أولًا
الباحث السوري سنان حتاحت، أوضح عبر مراسلة إلكترونية مع عنب بلدي، أن الامتيازات الاقتصادية لروسيا في سوريا لا تسد فاتورة أعمالها العسكرية، ولا يمكن أن تغطي تكلفة التدخل العسكري حتى بأرقامها المتوقعة على مدى طويل جدًا.
هذه الامتيازات جانبية بمعظمها، لا أساسية، وفق الباحث الذي اعتبر هدفها زيادة أدوات التحكم بالنظام أكثر من ريعها الاقتصادي الذي لا يستدعي “الاستشراس” للحفاظ عليها أو توسعتها.
هذا الرأي يتوافق ونظرة الباحث في الاقتصاد السياسي الدكتور جوزيف ضاهر، الذي بيّن لعنب بلدي أن الديناميكية الرئيسة للتدخل الروسي، مدفوعة باعتبارات جيوسياسية أكثر من الأهداف الاقتصادية، عبر تأمين مدخل إلى المياه الدافئة غربي البحر المتوسط، والحفاظ على حليف في المنطقة، ومزاحمة الولايات المتحدة في حيزها الحيوي.
ولا ينفي ضاهر اهتمام موسكو بالمكاسب الاقتصادية في سوريا إلى جانب ما هو سياسي، لكن العقود التي حصلت عليها الشركات الروسية في سوريا لا تزال منخفضة نسبيًا مقارنة باستثماراتها العسكرية في سوريا، مشيرًا إلى استخدامها التدخل العسكري في سوريا وسيلة لاستعراض إمكانيات أسلحتها والترويج لها.
لا تسد رمق النظام
في ظل اتفاقيات طويلة الأمد بقطاعات مفصلية اقتصاديًا، تختلف وجهات النظر والرؤى حول مدى التوغل الروسي، ومصير الاقتصاد السوري الذي يعيش أزمات عديدة، على المدى البعيد.
الباحث سنان حتاحت أشار إلى أن مدة العقود التي أبرمتها روسيا مماثلة للعقود التي تبرمها الشركات الأمريكية والصينية مع أي دولة في إفريقيا أو شرقي المتوسط، في مجالات التنقيب والتعدين.
وأوضح أن الإشكالية هي نسبة الاستفادة المرتفعة التي تحصل عليها الشركات الروسية في سوريا، إذ تؤثر هذه النسب على عوائد الدولة من هذه المصادر والموارد المالية والطبيعية، فنسبة النظام هي الأقل، رغم وجود أزمة صادرات حقيقية لديه، وغياب قدرته الإنتاجية، وانعدام سيطرته على معظم حقول النفط، بحسب حتاحت.
ورغم تتالي العقود المبرمة عبر السنوات، لا تزال مناطق سيطرة النظام تشهد شحًا في الخدمات الأساسية من محروقات وكهرباء ومياه وغيرها من المواد التي تدير إنتاجها وتستثمرها الشركات الروسية في سوريا.
مكاسب روسية طريقها الملف السوري
“لا نريد إلقاء الحجارة على حديقة أي شخص، ولكن منذ نحو عام ونصف كان التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة يضرب في سوريا دون نتيجة، ما سمح لـ(الإرهابيين) حينها بتعزيز وجودهم في سوريا والعراق”.
هكذا مهّد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، لإعلان دخول قواته بشكل مباشر في الحرب دعمًا للنظام السوري قبل سبع سنوات، لكن باحثين ومتابعين للشأن السوري والروسي، ممن قابلتهم عنب بلدي، ذهبوا بتحليل تطلعات روسيا إلى أبعد من محاربة “تنظيم متشدد”، فالمحلل السياسي ديميتري بريجع، المقيم في موسكو، اعتبر أن روسيا استخدمت القضية السورية “ورقة ضغط” ضد الغرب، للقول إن روسيا تغيرت، وباتت أقوى حضورًا على الساحة الدولية.
كما يرى أن التوجه الروسي لاستخدام سوريا في هذا السياق واضح منذ بداية تغيير موسكو سياستها تجاه ملفات الشرق الأوسط، التي افتتحتها بالملف السوري.
فمنذ بداية الدخول الروسي كان واضحًا أن بوتين يحاول تغيير الصورة الخارجية لبلاده ويتجه للتصعيد مع الغرب، ما دفعه لدعم النظام الذي فشل في حل مشكلاته الداخلية، وكان سببًا لتوسع رقعة الاحتجاجات ضده.
النظرة الروسية إلى النظام كـ“ورقة ضغط” ذات تأثير على الغرب لم تتغير، إذ استطاعت موسكو حماية النظام، بينما فشل الغرب بوضع حل للملف السوري، باعتباره لم يتبنَّ موقفًا موحدًا في هذا السياق منذ البداية.
هذه المعطيات مكّنت موسكو من الظهور بصورة “المهيمن” في سوريا، إذ من المستبعد أن يتغير فيها الوضع الميداني قبل إحداث تغيير على مستوى الداخل الروسي، وفق بريجع.
من العزلة إلى النظام
سعت الدول الغربية لتعميق حالة العزلة السياسية والدبلوماسية لروسيا بعد ضمها شبه جزيرة القرم عام 2014، وقضمها أراضي أوكرانيا منذ ذلك الوقت.
من جانبها، رأت موسكو أن التدخل في صراع كبير بالشرق الأوسط، تتقاطع فيه مصالح القوى الأوروبية والشرق أوسطية، سيفضي إلى حوار مع روسيا، بغية الدفاع عن مصالحهم في الملف السوري، ولا سيما إذا غيّر التدخل العسكري الروسي موازين القوى في سوريا.
ووفق المحلل السياسي الروسي، فموسكو كانت مدفوعة بآمالها أن تقربها الحرب في سوريا من الغرب، لتحسين العلاقات السياسية وكسر العزلة، وتخفيف وطأة العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، باعتبار أن الغرب أيضًا يحارب “ضد الإرهاب” في سوريا، وشكّل عام 2014 تحالفًا دوليًا لمحاربة تنظيم “الدولة الإسلامية”.
وتجمع بين سوريا وروسيا علاقات قديمة تعود لما قبل الاتحاد السوفييتي، وتحتفظ موسكو منذ مدة طويلة بقاعدة بحرية صغيرة هناك، ومع تدخلها العسكري أسست لنفسها قاعدة جوية ومنشآت أخرى لتعزيز الحضور الملموس على الأرض.
المحلل الروسي ديميتري بريجع، اعتبر الملف السوري بوابة استعملتها روسيا لإعادة حضورها الدولي بشكل فعال، فحاولت تقديم نفسها كحليف “أكثر موثوقية” من الجانب الأمريكي في الملف نفسه، وكان ذلك مفتاحًا لعلاقات أوضح وأكثر نضجًا مع كل من تركيا والجزائر والعراق والإمارات والسعودية، والعديد من دول المنطقة.
ورغم تلك العلاقات، لم تنجح موسكو كفاية في توثيق علاقاتها مع دول المنطقة، لضعف في إدارة السياسة الخارجية منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، وتغير الكوادر الدبلوماسية إلى مجموعات “غير قادرة على رسم خطة واقعية وجدّية للسياسات الروسية الخارجية”.
هذه المناوشات قرأها المحلل الروسي على أنها محاولة لتغيير النظام العالمي الحالي، وتحويل السياسة العالمية إلى عالم متعدد الأقطاب، تقوم فيه دول مختلفة بدور لحل المشكلات الدولية.
وكان الرئيس الروسي انتقد، في 28 من آب الماضي، “أحادية القطب”، مشيرًا إلى ضرورة استبدال آخر به “قائم على المبادئ الأساسية للعدالة والمساواة”، مع الاعتراف بحق كل دولة وشعب في مسار التنمية السيادي الخاص بهما، وفق ما نقلته قناة “روسيا اليوم” الروسية.
خالد الجرعتلي وحسن إبراهيم وحسام المحمود _ عنب بلدي