كان الشعب السوري في لحظةٍ تاريخيةٍ فارقة. ذهبَ الاستعمار الفرنسي نتيجة نضالات، كان جامعها ومشتركاتها سورية الوطن، بكل ما أورثها التاريخُ والجغرافيا، من تنوعاتٍ واختلافات، وكان الأفقُ ممتداً ومفتوحاً. وتأسيساً على تلك اللحظةِ الفارقة، لحظةَ كان فيها السوري مُتمدِّناً ومتحضّراً ويمارسُ النضالَ الوطنيَّ دون أي اختلافٍ على الهدفِ والأساليبِ والمرجعيةِ والقيادة، والوجدانُ الثقافي والقيمي كان مرجعاً و خطةً وأسلوباً ومخرجاً ولو لوقتٍ قصير.
مشاريع سياسيةٌ تحملُ بشكلٍ جنيني براعمَ دولةٍ حديثة. والتأسيسُ لمبادئ فلسفيةٍ أخلاقية تقربُ المختلفين. لكن الحدث الاستقلالي العظي خمد بقصدية، لأنه عبر عن حوارٍ ضمني وعلني بين التلاوينِ والأديانِ والطوائف، مُعلنا وحدةَ الانتماءِ الوطني والتحرُّر من الاستبدادِ والتوظيفِ السياسي. وبقي الاستقلالُ مجردَ ذكرى يُحتفلُ بها كل عام.
ذكرى كان فيها مساحةٌ امتدت عقدا وما زالت، يردِد فيها الشعب مفردات ثورته التي لم تفلح بعد بتأسيس فلسفة قيمية فاعلة لنهضة مجتمعية لأنها ما زالت تواجه آلة مدججة بكل الأسلحة والانكسارات والاتكال والكذب وهنا سيكون الجلاء دائما فضاء يعيد فيه الشعب عملية المراجعة والبناء القيمي والبحث عن أدوات معاصرة.
تعيد صياغة أفكارنا التي ستمكننا حتما من روح الاستقلال الكلي المنفتح على التعايش والحوار ووحدة الهدف واستيعاب مكونات هويتنا وتجاوز عقلية الأحزاب الشمولية السكونية وقبول التعددية والتسامح والعيش المشترك هكذا هي الدروس التي يعطينا إياها الجلاء ومع ذكرى النصر على قوى خارجية عاتية علينا نجدد فهمنا أن الثورة السورية الكبرى هي أرضية مشتركة لنتقبل أننا مختلفين ومتنوعين في الثقافة والجنس والدين ومتفقين أن سوريا أرضنا ووطننا وهويتنا وهدفنا.. وأما بعد أن يكون نيسان عيد لميلاد الحزب في أسبوعه الأول ثم يكون في أوسطه عيد للاستقلال والجلاء هي مفارقة تثير الدهشة والعجب!
إنه أمر شائك أن نجري مقارنة بين الحدثين
الحدث الأول: كان إعلانا لبداية حزب قومي كان ارتدادا متأخر جدا لمشاعر القومية التي تأججت في أوروبا القريبة وقد نكون مجانبين للحق إذا تجاهلنا أن اللحظة الزمكانية تواءمت مع رغبة ملحة في إرادة نهضوية والبعث من هنا كان كفكرة بداية واعدة ومنفتحة ومجتهدة.
لكن التعثر ظهر حسب رؤية خاصة يكمن في توسل نفس الأدوات التي توسلها من حقق الهوية القومية أو بمعنى أصح استعارة أسباب وفكر وأساليب من أمم مغايرة تختلف جملة وتفصيلا عن خصائص واقعنا.
ويظهر أن البعث الذي اختار هذا التسمية والتي يقصد منها الصحوة والنهضة بقي فكره إشكاليا حول مفاهيم متعددة أهمها مسألة الهوية والأصالة والدولة الحديثة، وليس سرا مخفيا مسار الحزب الفكري في مجال التفسير والتأويل الذي ذهب إلى حد الفراق مع كثير من البعثيين الذين أودعوا السجن أو قتلوا.
كانت المقدمات نفسها للبعثيين، لكن في الطريق والأداة أخذت المسافة تبتعد ولم تعرف قط التقارب وفيما بعد يتبين أن البعث البداية هو غير البعث الذي حكم كلاً من العراق وسورية فالأهداف تغيرت والوسائل تباينت والتعارض بين نهجين بدأ مفارقة أبدية فلكل من النظامين في سورية والعراق ضمنا وعلنا ليس نفس الأهداف؛ وإن الأمر برمته يعود إلى جملة أسباب خاصة القصد منها غير معلن… ومضى الحزب إيهاب ورداء ومظهر لحكومات فصلت وشكلت لمهمات كبرى، أظهرتها الأيام فيما بعد!
سلسلة من الانكسار والانهزام على كل مستوى وانحطاط بلغ درجة أن سلمت العراق لأمريكا ثم إيران.وفي سوريا مخاض عسير لثورة وصراع مستمر مع احتلالات مركبة واستبداد بلغ أرقاما قياسية في احتقار الشعب وقهره، وهكذا فارقت فكرة الإحياء والنهضة الحزب إلى الأبد.. وبتسلل ناجح استغل غفلة حسن النوايا وتأجج العواطف وثب العسكر ممسكا بالهيكلية التنظيمية ثم الفكرية.
هنا أجهض مشروع الدولة الوطنية عبر تحطيم الطبقة الوسطى التي كانت أهم روافع النهضة الوطنية وذلك بإجراءات ما سمي الثورة البعثية التي صادرت وأممت ليس فقط الأملاك والثروات بل الوعي والحريات والكرامة.ونمت قوة العسكر نموا مطردا رغم أنواء الصراعات على السلطة التي عرفت بمسلسل الانقلابات، وفي نتيجة هذا التنافس كان البعث سيد الموقف وبدأ الحزب يودع حلم الإحياء والنهضة والتحرير والأصالة، وإدراج مكتبات القيادة القطرية والقومية والفروع والفرق التي غطاها الغبار والإهمال والنسيان.
وفي المقابل كان الإعلام الضعيف والواهن مهنيا وأخلاقيا مجتهدا جدا في الطاعة العمياء وحملات التشوية والتزييف، وصودر البعث وأغلق على تعيانته ومنع المحازب الشريف والمواطن من تمكين أدواته السياسية والاجتماعية.. ودخل البعث حتى إشعار آخر ضمن النظرة العامة من الشعب السوري إليه كحزب أوصل العسكر وخرج عمليا وفكريا مستنفذا أغراضه. من خلال جنوحه إلى الجمود والتمترس خلف رواسخ طقسية ووهمية تخدم مشروعا طويل الأمد في المنطقة أقل ما يقال عنه إنه مشروع تفتيت بغية الوصول إلى نهاية الوطن… وانتهت الحاجة إليه كحزب تجاوزه الزمن فكرا وأسلوبا، ومضى فارغ الوفاض رغم محاولة المتحازبين (تصحيفه) لكن ميولات الحزب انتهت إلى ردة، وطيلة عقود سجل غياب في مقام الحوار والتخاطب، ولعمري هذا النهج الذي أدى به إلى الهلاك!
وكانت نظرية الحزب تمكث مؤجلة وأما مسلكه فقد كان تحت سمة سلبية كبيرة وصلت حد اتهامه بالكارثة السورية.
ورغم سيره الحثيث في زاد الإعلام والإعلان والمظهر، لم يرتق إلى مستوى ومقام الجلاء الذي كان تتويجا لنضال عفوي نظم أخلاقيا عبر الوعد والعهد ذلك الحدث الوجداني والقيمي والوطني، الذي كان يهيئ الشروط للاستقلال التام وإقامة دولة حرة مستقلة دولة مواطنة وقانون!
نيسان بدأ خجولا وجدا في يومه السابع، وظهر مشعا بمشروع جلاء تمام يوم السابع عشر منه.. وسنظل نحلم بحياة أفضل رغم حصاد نيسان التاريخي المر!
إيمان أبو عساف _ أورينت نت