تغيّر بعض معادلات حرب القمح بين قوى النفوذ الأربع في سوريا، قليلاً، هذا العام. إذ تحسن وضع النظام في قائمة المتصارعين، فيما تذيلت القوى المسيطرة في شمال غربي البلاد، تلك القائمة. وحافظت “قوات سورية الديمقراطية – قسد”، على موقعها الأول، كما كان، في العام الفائت. ولأن تقسيم البلاد، أمر واقع، يبدو أن سكان المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة المدعومة تركياً، وتلك الخاضعة لسيطرة “هيئة تحرير الشام”، هم الأقل حظاً هذه السنة، مع ارتفاع مخاطر التعرض لأزمة غذائية خطرة. فيما يبقى واقع سكان المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، غير مطمئن، نظراً لضخامة فجوة الاحتياجات من القمح التي من المستبعد أن يتمكن النظام من تقليصها بصورة كبيرة، حتى مع مساعيه الجدية بهذا الصدد. في حين، يمكن لسكان المناطق الخاضعة لسيطرة “قسد”، الارتياح إلى توفر احتياجات القمح الأساسية للموسم القادم، وتوفر فائض ملحوظ للتصدير، أيضاً.
وكما كان متوقعاً، اندلعت مزايدات حرب القمح مبكراً هذه السنة، بدفعٍ من أزمة الغذاء العالمية. وكانت سلطات “قسد – الإدارة الذاتية الكردية”، والنظام، الأكثر حرصاً على التحرك بسرعة. أما المؤسسات المحسوبة على “الحكومة السورية المؤقتة”، المدعومة تركياً، وتلك المحسوبة على “حكومة الإنقاذ” التي تمثّل سلطة “هيئة تحرير الشام” في إدلب، فأظهرت –حتى الآن- فشلاً ذريعاً في إدارة الموارد الشحيحة المتاحة من القمح، ومنع تسربه إلى مناطق النفوذ الأخرى، في وقتٍ يلوح فيه، بشدة، شبح فقدان معبر المساعدات الدولية الوحيد، الذي لطالما ركنت إليه مناطق “المعارضة”.
لا يرجع نجاح “الإدارة الذاتية” في “شرق الفرات”، في تسيّد قائمة “المنتصرين” في حرب القمح المحلية، إلى “أداء رشيد”، بقدر ما يرجع إلى ريعية أعلى للثروات الزراعية في المنطقة التي تسيطر عليها. ووفق تقرير تحليلي لمركز “جسور للدراسات”، فإن متوسط إنتاج القمح في “شرق الفرات”، خلال آخر 3 أعوام، نحو 600 ألف طن. فيما تُقدّر حاجات الاستهلاك المحلي في تلك المنطقة، بنحو 400 ألف طن، مما يعني أن هناك فائضاً بنحو 200 ألف طن. لكن يجب أن نقرّ، أن وجود هذا الفائض، لم يدفع “الإدارة” إلى الاسترخاء، بل على العكس. فهي تدرك أن النظام، تحديداً، يتربص بذاك الفائض، ويراهن على خطوط التهريب لاستدراجه. لذا، وكما فعلت في العام الماضي، حددت “الإدارة” سعراً لشراء القمح من الفلاحين، هو الأعلى في مناطق النفوذ الأربعة، وقدمت مزايا كالقبول بتسلم القمح “دوكما” أو “مشوّل”. كما واستنفرت مراكز التسليم التابعة لها، والتي تزيد عن نظيراتها التابعة للنظام في محافظات الجزيرة الثلاث. مما جعل لها اليد العليا في منافستها مع النظام، وهددت الأخير، بتسرب القمح الشحيح المُنتج في المناطق الخاضعة لسيطرته من الجزيرة السورية، إلى مناطق سيطرتها.
النظام، بدوره، رفع سعر شراء القمح من الفلاحين، ليحتل المرتبة الثانية بين مناطق النفوذ الأربع، وشدد إجراءاته الأمنية لمنع تسرب القمح إلى مناطق سيطرة “الإدارة”، قدر المستطاع. لكن يبقى أن معضلة النظام ضخمة. فإنتاج المناطق الخاضعة لسيطرته، لا يتجاوز الـ 400 ألف طن، بينما تقدّر احتياجات السكان في مناطقه، بنحو 1.2 مليون طن، وفق التقرير التحليلي المشار إليه لمركز “جسور”. أي أن النظام يعاني من فجوة تصل إلى نحو 800 ألف طن، يراهن على تقليصها بالاستفادة من القمح المهرّب من مناطق “المعارضة” بشمال غربي البلاد، ومن القمح الأوكراني المسروق الذي تسوقه روسيا إليه. أما في شمال غرب سوريا، والذي حددت السلطات فيه، أدنى أسعار للقمح –خلافاً لما حدث في العام الماضي-، فقد ظهرت مؤشرات واضحة لحركة تهريب القمح إلى مناطق سيطرة النظام، بصورة أقلقت النشطاء ودفعتهم لرفع الصوت عالياً، والتحذير من خطر “مجاعة”. خاصةً وأن تلك المناطق تعاني هي الأخرى من فجوة بين الاحتياجات وبين الإنتاج الخاص بها من القمح، تقدّر بنحو 250 ألف طن. وفي السنوات السابقة، كانت تلك الفجوة تُسد من المساعدات الدولية، ومن الاستيراد من تركيا. لكن في هذا العام، هناك مخاطر بإغلاق باب المصدر الأول، وارتفاع تكاليف الاستيراد من تركيا، بصورة ستفاقم من عجز القدرة الشرائية للسكان.
لكن، وبعيداً عن مزايدات الصراع على القمح، بين قوى النفوذ الأربع في سوريا، يبدو مستقبل الأمن الغذائي للبلاد، كئيباً للغاية. إذ تشير دراسة استقصائية نشرها مركز “السياسات وبحوث العمليات”، قبل أيام، إلى أن تداعيات موجات الجفاف على صحة الأراضي الزراعية، قد تكون وصلت إلى نقطة اللاعودة. فرغم أن موسم الهطولات المطرية هذا العام، أفضل من متوسط العام الفائت، إلا أن إنتاج الأراضي الزراعية، بالمجمل، تراجع. وتدعم هذه القراءة تلك البيانات التي صدرت عن المؤسسات المعنية في مناطق النفوذ الأربع في سوريا، والتي أقرت بتراجع إنتاجية دونم القمح، لهذا العام.
الجفاف في سوريا، والذي وصل ذروته نهاية العام 2020، تضافر مع عقودٍ من سوء إدارة القطاع الزراعي والموارد المائية في البلاد، ليضع السوريين على حافة أزمة زراعية هي الأسوأ في تاريخهم المعاصر، وفق الدراسة المشار إليها.
وفيما تتصارع قوى الأمر الواقع في سوريا، على حلول إسعافية قصيرة الأجل، لتأمين الخبز ربما لأشهر فقط، تهدد الأمن الغذائي للبلاد، مخاطر عجزٍ، قد تُخرج فئة كبيرة من السوريين، من حيز الفقر، إلى حيز الجوع، بكل معنى الكلمة.
إياد الجعفري _ المدن