syria press_ أنباء سوريا
صوّت سوريون يعيشون تحت سيطرة النظام لبقاء بشار الأسد في منصبه رئيساً للنظام، أي لاستمرار الأزمة التي باتت تتمثّل بالنسبة إليهم باستمرار طوابير الخبز والوقود، وبالعيش الضنك في كل مجال. مَن كانوا موالين للنظام، لأسبابهم، لم تعد لديهم أوهام، فـ”الاستقرار” الذي كان قبل عام 2011 إنما كان وهماً ذهب ولن يعود، أما “التغيير” الذي أملوا بأن يكون نحو الأفضل فلا يزال يبتعد ويتأجّل.
قال لهم الأسد، بعد “فوزه”، إنهم أعادوا تعريف “الوطنية” و”الخيانة”، قال لهم إنهم بتصويتهم أرسلوا “أقوى رسالة الى الأعداء”، لكنه لم يستطع القول، قبل “الفوز” وبعده، متى يطفون فوق أدنى خطٍ للفقر أو متى يخرجون من تحت ربقة الأسواق السوداء التي تديرها أذرع النظام.
كان “الأمل بالعمل” شعار حملته المصطنعة، واللا لزوم لها، لكنه لا يحتاج الى شعار لإقناعهم، ففروع الأمن نفّذت الخطة المرسومة والمتكرّرة منذ عقود: لا بدّ من أن يخرج “الناخبون” مرّتين، للتصويت ثم للاحتفال. وكيف لا يفعلون ما دام سكنهم وطعامهم ووظائفهم وسلامة عائلاتهم وتعليم أولادهم مرتبطة بهذه الورقة التي يلقونها في صناديق الاقتراع.
كلّ ما كان يهمّ الأسد وحليفيه الروسي والإيراني، هو “الصورة” التي ظهر فيها الدكتاتور، مدلياً بصوته ومبتهجاً فوق أنقاض دوما، على بعد أمتار من مواقع كان قصفها بالسلاح الكيماوي. مهمٌّ لموسكو وطهران أن يبدو الأسد مرّة أخرى “منتصراً”، وشريكاً طبيعياً ضرورياً في دمشق، فقد عملتا طويلاً على تلميع هذا الوهم وجعله الحقيقة الوحيدة في سوريا، وعلى التأكد أنه ثابت على عقليته وسلوكه.
فهو يتجاهل تماماً أنهما يشغّلان “مرتزقة”، كما تفعل القوى الخارجية الأخرى. وهو يزيّن تدخّلهما ويمحضه “شرعيته” ويرتضي أن تستخدماه ورقة في صراعهما مع الولايات المتحدة والدول الغربية، برغم أن منتهى أمانيه أن يعاود الأميركيون والأوروبيون الاعتراف به وبنظامه، إذ إنه خبر حدود قدرة الحليفين اللذين أنقذاه من الانهيار والسقوط لكنهما علقا معه في حفرة العقوبات، ولا “أمل بالعمل” إلا بالخروج منها، ولا أمل بهذا الخروج ما دام أكثر من نصف سكان سوريا اقتُلعوا من مواطنهم بل أقصاهم النظام نهائياً عن خريطته الديموغرافية.
بدا الحديث الغربي عن “انتخابات حرّة ونزيهة” أشبه بالتبشير بأرض خصبة في صحراء قاحلة. في المقابل، بدت الإشادة الروسية بـ”اقتراع حرّ ومطابق للمعايير” مطابقة تماماً لثقافة راسخة في احتراف النفاق، فعشية انتخابات الأسد، اعتبرت موسكو إجبار بيلاروسيا طائرة مدنية على الهبوط لاعتقال صحافي معارض أمراً طبيعياً وسيادياً.
لم يحلْ تزوير الانتخابات في بيلاروسيا دون أن تشارك مع أرمينيا وأبخازيا وأوسيتيا الجنوبية وغيرها من التبعيات الروسية في “مراقبة” الانتخابات في أقلّ من ثلثي سوريا وفي غياب أكثر من نصف السكان. وإذ قال أحد المراقبين الروس إن “كل سوري حصل على فرصة التصويت”، فقد بدا كأنه اطّلع مسبقاً على نص التهنئة – الساخرة – التي طيّرها الرئيس الإيراني الى الأسد قائلاً إن “الشعب السوري خطا، بهذا الإقبال الكبير والاختيار الحاسم، خطوةً مهمّة نحو تقرير مصيره وازدهار سوريا”.
نادراً ما يُجمع هذا الكمّ من اللامعنى في أقلّ من سطرين. قبل ساعات كان حسن روحاني يشكو لمرشده أن مجلس صيانة الدستور أقصى “الإصلاحيين” وحصر المنافسة على الرئاسة الإيرانية بالمرشّحين المحافظين، ما يهدّد “الإقبال الكبير” على التصويت. لكنه يعلم أن مجلس الصيانة نفّذ إرادة علي خامنئي.
ماذا بعد إعادة انتخاب الأسد، وهل تَغيّر شيء؟ ليست لدى النظام قوّة دفع، سياسية أو اقتصادية، لتجاوز ارتكابات عشرة أعوام كأنها لم تكن، لكن لديه رهانات على تغيير لدى من يسمّيهم “الخصوم” و”الأعداء” يدفعهم الى قبوله كما هو، باعتبار أنهم يحتاجون إليه مثلما احتاج إليه الروس والإيرانيون والأتراك والإسرائيليون وحتى الأميركيون لتحقيق مصالحهم. فهؤلاء ساعدوه في “بيع” روايته للأزمة بالقوالب التي تصوّرها وصنّعها: “مؤامرة كونية”، “مواجهة مع الإرهاب”، “حرب عالمية على المقاومة”… لكنهم لم ينسوا أن ما استدعاهم للتدخل هو أن الأزمة “داخلية” في الأساس، وأن النظام كان استعدى شعبه واستعدّ لسحقه بكل الأساليب، حتى لو تطلّبت جراحة تستأصل الملايين من أبنائه ومساحات من أرضه.
هذه هي “المهمة الوطنية” التي قال الأسد أخيراً إنها “أُنجزت”، وهذه هي “الرسالة الى الأعداء” التي عناها، أي أن أمامهم خياراً واحداً: ابتلاع المليون ونصف مليون قتيل ومفقود ومصاب، وإثني عشر مليون لاجئ ومشرّد، ومئات المجازر وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية… للقبول بما هو متاح: “سوريا الأسد”. بالنسبة الى الشعب السوري، تمثّل إعادة انتخاب الأسد شيئاً واحداً هو أن محنته مستمرّة وتتطلّب منه صبراً أطول، فالمواقف الأميركية والأوروبية لم تكن حاسمة لمصلحته في أي وقت، لا في تمكينه من الانتصار ولا في ترجمة هزيمته العسكرية الى تسوية سياسية.
أمّا الأطراف الخارجية المتدخّلة فلديها الكثير مما تعتبره مكاسب. روسيا ترى في إعادة انتخاب الأسد تثبيتاً لهيمنتها ودورها الجديد في الشرق الأوسط، بالتوافق مع الدول الثلاث (إيران وتركيا وإسرائيل). وإيران تسجّل خطوةً أخرى متقدمة نحو بلورة أهداف ثلاثة لمشروعها الإقليمي: “تعزيز نفوذها في سوريا”، “تحالف الأقليات” و”تقوية محور المقاومة والممانعة”.
وتركيا تستشعر فرصاً جديدة لتزكية نفوذها في المنطقة، إذ تلعب ورقتَي التحالف والتنافس مع روسيا، وتقدّم نفسها شريكاً متفاهماً مع إيران وبديلاً منها في آن، ولا تقطع شعرة التواصل مع إسرائيل. أما الأخيرة فكانت ولا تزال تدعم بقاء الأسد بعدما حقّق لها أكثر مما تريده من دمارٍ لسوريا، وتعتقد خطأً أن نفوذ إيران مجرد أضرار جانبية يمكن التعايش معها.
يبقى أن هذه الأطراف الأربعة، بالإضافة الى الأسد ونظامه، موقنة الآن أن مستقبل أدوارها ومطامعها والإفلات من جرائمها بات يتطلّب “شرعنة” عربية لتقاسمها النفوذ وتقطيعها أوصال الجغرافية السورية، بل يتطلّب تمويلاً عربياً لإعادة الإعمار.
لكن العرب معنيّون بـ”سوريا” لا بنفوذ صُوَري فيها، وبإنصاف الشعب السوري لا بتكرار نكبة الشعب الفلسطيني باقتلاعه من أرضه ونهب ممتلكاته، من دون نسيان نكبات أخرى في العراق ولبنان واليمن.
عبد الوهاب بدرخان_ النهار العربي