يعاني الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، منذ بدايات نشوئه، من أزمة بنيوية عميقة غير قابلة للإصلاح، فهو قد تشكل أساساً بناء على إرادات دولية تغيرت أولوياتها، ولوظيفةٍ لم تعد موجودة، وأُعطي من الوعود التي لم تنفذ على أرض الواقع. وقد تحول، مع الوقت، إلى مجموعة منغلقة على ذاتها، يتحكّم فيها أشخاص يتبادلون المواقع والامتيازات، ومن دون أيّ اكتراثٍ بالانهيارت التي كانت وما زالت.
وقد اعتدنا مع بداية عهد كلّ رئيس جديد لـ”لائتلاف” أن تكون هناك جملة وعود بالإصلاح، فتُعقد الاجتماعات، وتُقدّم التوصيات، وفي نهاية المطاف لا نجد أنفسنا إلّا ونحن نسير نحو الأسوأ. وقد بُذلت محاولات عدة لعقد اجتماعات موسّعة بهدف تقديم البديل، أو حتى الإعداد لمؤتمر وطني سوري عام، ولكن سرعان ما تظهر الخلافات، وتتناقض التوجهات، لنعود مجدّداً إلى المربع الأول.
الوضع الذي تعيشه المعارضة السورية الرسمية راهناً مسدود الآفاق؛ فهي قد تحولت، بكل أسف، إلى امتدادات للمشاريع والحسابات الإقليمية والدولية. وقد أُعطيت من الفرص من السوريين، ما يكفي لتراجع نفسها، وتعترف بأخطائها لتتجاوزها، وتعمل على اتخاذ خطوات جادّة في طريق الإصلاح؛ خطوات تسترجع بموجبها ثقة السوريين، عبر تأكيد الالتزام بأولوياتهم؛ وتفرض احترامها على المجتمع الدولي، من خلال إثبات قدرتها على تقديم البديل المقنع المقبول، إلا أن تلك الجهود لم تؤدِّ إلى نتائج ترتقي إلى المستوى المطلوب؛ بل استمر التراجع في “الائتلاف”، وتركه كثيرون، وتراجع الاهتمام الدولي به، وفقد رصيده الشعبي، بل تعرّض، ويتعرّض، لحملات نقدٍ قاسية.
ولم يقتصر الأمر في هذا على “الائتلاف” وحده، بل شمل هيئة المفاوضات، واللجنة الدستورية. أما المنصّات، فينظر إليها على أنها مشاريع خاصة حزبية أو شللية الطابع، تتحرّك ضمن مسارات الدول التي تستمد منها اسمها.
لا توجد مؤشرات توحي بإمكانية تحسّن الوضع السوري، وذلك إذا ما استمرّت الأمور في مساراتها الراهنة
هذا هو واقع الحال، بعيداً عن الرتوش التزيينية، والجمل الإنشائية المنمّقة التي عادة ما تدور حول المسائل من دون أن تشخّصها بدقة. والمصيبة الأكبر أنه لا توجد مؤشرات توحي بإمكانية تحسّن هذا الوضع، وذلك إذا ما استمرّت الأمور في مساراتها الراهنة. ولعل طريقة تبادل المواقع والوظائف التي سادت “الائتلاف” والهيئات الأخرى تلقي الضوء الساطع على مدى عمق الأزمة التي تعاني منها هذه الجهات التي أدمنت صيغةً من التحالفات البينية الشللية التي تكون بين بعض الأشخاص الذين هم في المشهد منذ سنوات طويلة، ومن دون أي إنجازات فعلية ملموسة على أرض الواقع، ومن دون بذل أي جهد لتجاوز الانسداد الحاصل ضمن هيئات “المعارضة الرسمية” المفروض أنها تمثل كل السوريين المناهضين لحكم الاستبداد والفساد.
لا يبشّر الوضع الحالي بأي تقدّم، وهو يساهم في تراجع الاهتمام الدولي بالموضوع السوري، فالدول تعرف خلفية جميع الأشخاص، ودرجة تأثيرهم ومقدار شعبيتهم؛ كما أنها على درايةٍ كاملةٍ بحجم الخلافات والتباينات والتداخلات بين من هم في المشهد وغالبية السوريين.
قُدّمت مقترحات كثيرة من أجل إصلاح “الائتلاف”، سواء من خلال إعادة اختيار أعضائه وفق معايير جديدة تأخذ بعين الاعتبار التمثيل، أو التحقّق من الوجود الفعلي لبعض الجهات أو الكيانات التي دخل باسمها أشخاص كثيرون إلى الائتلاف؛ لكنّها لم تؤخذ بعين الاعتبار. وهناك أسئلة مشروعة يطرحها السوريون بشأن مشروعية بقاء بعض الأفراد ضمن “الائتلاف” سنوات، ومن دون أي تجديد أو شرعنة عبر الانتخابات، أو بناء على معايير واضحة مقنعة، ويتم التوافق عليها، وتنال ثقة السوريين.
جهود بذلها، ويبذلها، السوريون في الداخل والخارج من أجل تشكيل أحزاب وتيارات سياسية، من شأنها أن تجمع بين من يتوافق حول مبادئ وقواسم مشتركة
ولا يختلف الأمر كثيراً بالنسبة إلى هيئة المفاوضات واللجنة الدستورية، وهما الهيئتان اللتان تشكلتا بفعل عمليات القص واللصق وفق حسابات الدول وتدخلاتها. هذا بغضّ النظر عن الآراء المختلفة بشأن مشروعية اللجنة الدستورية نفسها، وجدواها، فهذه مسألة أخرى نوقشت كثيراً وقيل فيها الكثير. والأمر الجدير بالإشارة إليه في هذا السياق أنّ الهيئتين فنيتان في الأساس، ومن المفروض أنّهما تتبعان مرجعيةً سياسيةً معروفة تمتلك الشرعية من الأوساط الشعبية التي تتحدّث باسمها، مرجعية تحدّد استراتيجية عملهما، وتضع لهما الأهداف، وتتابع ما توصلتا إليه للبناء عليه، أو تعديل الخطط؛ وتقوم هذه المرجعية بمهام المساءلة والمحاسبة إذا ما لزم الأمر. كما تجري التغييرات والتعديلات ضمنهما، بناء على الحاجة والإنجازات والعثرات.
ولكن الهيئين المعنيتن هنا تتصرّفان كهيئتين مستقلتين، بل لا يقتصر الأمر في ذلك عليهما فحسب، بل هناك من الأعضاء، سواء في “الائتلاف” أو في الهيئتين المذكورتين، من يتواصلون مع الدول، ويشاركون في الاجتماعات المعلنة أو غير المعلنة، ومن دون العودة إلى الهيئات التي هم أعضاء فيها، أو من دون أخذ موافقة المرجعية السياسية المفترض أنهم يستمدّون منها اصلا المشروعية.
لا نود أن نذهب كثيراً في التحليل، وطرح التساؤلات، فالأمور، باختصار، لا تجري كما ينبغي، وكل ذلك ألحق، ويلحق، أفدح الأضرار بالعمل السوري المعارض. وفي موازاة ذلك كله، هناك جهود بذلها، ويبذلها، السوريون في الداخل والخارج من أجل تشكيل أحزاب وتيارات سياسية، من شأنها أن تجمع بين من يتوافق حول مبادئ وقواسم مشتركة، وذلك استناداً إلى الخبرات التي تراكمت خلال العقد الأخير، والمفاهيم التي تغيرت وتطوّرت. لكنّ هذه التجارب تحتاج مزيدا من الوقت كي تصبح أكثر استقراراً ونضوجاً، وتغدو أكثر قدرة على التأثير الفاعل في المجتمع السوري.
الممكن العملي في الواقع الحالي؟ الخطوة الأكثر واقعية وإمكانية، وذلك في ظل تعذّر إجراء الانتخابات أو استحالته، وعدم جدوى اعتماد صيغة المحاصصة التي تؤدّي، غالباً، إلى التعطيل، ربما تتمثل بترك الهيئات الموجودة حالياً على حالها، وتشجيعها على أن تقوم بعمليات إصلاح داخلية، هذا مع الإقرار بشبه استحالة تحقق ذلك. لكن ما نحتاج إليه اليوم، أكثر من أي شيء آخر، هو وجود هيئة أو لجنة محدودة العدد، تتكوّن من شخصياتٍ معروفة لدى السوريين، مناصرين للثورة، ممن ما زالوا يمتلكون المصداقية لدى أوساط واسعة من شعبنا؛ وممن لم ترتبط أسماؤهم بملفات الفساد والتشدّد والتعصّب بأي شكل، سواء الديني أم المذهبي أم القومي وحتى الأيديولوجي. أشخاص ينتمون إلى مختلف المكونات السورية، وأثبتوا باستمرار نزوعهم الوطني، وحرصهم على وحدة سورية أرضاً وشعباً على قاعدة احترام سائر الخصوصيات والاعتراف بالحقوق العادلة، ولديهم القدرة على التواصل مع جميع المكونات السورية من دون أي استثناء. كما يمتلكون إمكانية إجراء الاتصالات مع مختلف التيارات والأحزاب والقوى والشخصيات الوطنية السورية المناهضة لسلطة الاستبداد والفساد.
إذا أمعنّا النظر في السلبيات التي تراكمت، وستتراكم، نتيجة الاستمرار في ما نحن عليه، سنصل، انطلاقاً من مسؤولياتنا الوطنية، بضرورة تحمّل المسؤولية
مهمة هذه اللجنة أن تدافع عن القضية السورية بمختلف الوسائل وعلى جميع المستويات وفي سائر المحافل السياسية والدبلوماسية. تتواصل مع أهلنا في المخيمات، ومع الجاليات، ومراكز الأبحاث القريبة من أصحاب القرار، يشارك أعضاؤها في الحملات الإعلامية الداعمة للقضية السورية. وتدعو هذه اللجنة، بالتعاون مع مراكز الأبحاث والدراسات السورية، الملتزمة بأهداف الثورة السورية، والمشروع السوري الذي يطمئن الجميع، إلى ندوات ومؤتمرات بحثية تتمحور حول القضية السورية وسبل معالجتها. كما تنظم هذه اللجنة بصورة دورية لقاءات تشاورية بين مختلف الهيئات والقوى السياسية والمجتمعية السورية، يشارك فيها المفكرون والمثقفون والإعلاميون والفنانون السوريون، بغية تقييم ما جرى، والعمل على تجاوز الثغرات والأخطاء، والتوافق على خطط جديدة للتحرّك، والعمل المستمر من أجل تحقيق تكامل الجهود. وأولويات هذه اللجنة هي أولويات السوريين التي لا تتعارض مع مبادئ تعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة، والحرص المستمر على التفاعل الحضاري بين مختلف شعوب المنطقة، وبما يضمن المصالح المشتركة التي تفتح الآفاق أمام مزيد من فرص التعليم والعمل أمام الشباب والأجيال المقبلة.
ليس من السهل التوافق على فكرة تشكيل هذه المجموعة، كما أنّ ليس من السهل اختيار أعضائها، بل ستواجه هذه الفكرة الانتقادات والهجمات من المستفيدين من الوضعية الراهنة للمعارضات والانقسامات الحالية، وهي وضعيةٌ لا تبشر بأيّ خير، بل بمزيد من الانقسامات والانهيارات. مع ذلك، يبقى السعي الهادف من أجل تشكيل اللجنة المقترحة الخطوة الأهم في الطريق الصحيح، وذلك إذا درسنا الظروف التي تحيط بنا والتحدّيات التي نواجهها بصورة جيدة، واستوعبنا النتائج الكارثية التي سيواجهها شعبنا وبلدنا إذا ما استمرّت الأوضاع الحالية على منوالها.
وإذا أمعنّا النظر في السلبيات التي تراكمت، وستتراكم، نتيجة الاستمرار في ما نحن عليه، سنصل، انطلاقاً من مسؤولياتنا الوطنية، بضرورة تحمّل المسؤولية، واتخاذ الإجراءات الكفيلة ببلورة هذه الفكرة، وتطويرها من خلال المناقشات والمقترحات، لننتقل بعد ذلك إلى مرحلة التنفيذ، مع العلم أنّنا كلّما تأخرنا في ذلك أضعنا إمكاناتٍ كثيرة، وأصبحت قابلية الوصول إلى الهدف أصعب.
(من ورقة قدّمت إلى ندوة “سورية إلى أين؟” في الدوحة، 5-6 فبراير/ شباط 2022)