بدأت تداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا، تتجلى سلباً على حساب معيشة السوريين، عبر مؤشرٍ بات منذ سنوات أشبه بـ ” تِرْمُومِتْر” حسّاس ينبئ دوماً باتجاهات الوضع الاقتصادي. ونقصد هنا، سعر الصرف.
فحتى قبل بدء الغزو، رسمياً، فجر الخميس، بدأت الليرة السورية تترنح، وتحديداً، منذ يوم الثلاثاء، لتخسر خلال خمسة أيام، 1.5% من قيمتها، مع إغلاق تعاملات مساء السبت.
للوهلة الأولى، تبدو نسبة تراجع سعر الصرف، متواضعة، مقارنةً بتقلبات الليرة في تجارب سابقة. لكن بالعودة إلى تحركات سعر الصرف خلال الشهرين السابقين، يتضح لدينا، أن الليرة بقيت مستقرة ضمن هامش تذبذب لا يتجاوز الـ 1.5% من قيمتها. أي أن الليرة السورية خسرت خلال 5 أيام، ما سبق أن خسرته قبل ذلك، في شهرين. أما المؤشر الأبرز فهو أن الليرة أغلقت مساء السبت عند أدنى سعر مبيع لها مقابل الدولار في دمشق، منذ نحو 11 شهراً. أي أن الليرة السورية تراجعت إلى أدنى سعر لها منذ نحو عامٍ، بدفعٍ من التداعيات الاقتصادية الأولية للغزو الروسي لأوكرانيا. وهي تداعيات من المرجح أن تتفاقم خلال الشهرين القادمين.
حكومة النظام استنفرت خلال الأيام الثلاثة الأولى للغزو. وكأنها وجدت ما تتلقفه لتبرير تدهور معيشي جديد ينتظر السوريين. وأصدرت بيانات وتصريحات حملت عناوين عريضة، مفادها، التقشف والترشيد والتقنين وشد الأحزمة، والمزيد من المستبعدين من الدعم الحكومي.
وبعيداً عن الثقة المفقودة بين السوريين و”حكومتهم”، كان يمكن تفهم كل الأسباب التي ساقتها الحكومة لتبرير إجراءات ستزيد من قسوة الحياة على السوريين في الفترة المقبلة، بوصفها نتيجة لا يمكن الفِكاك منها، جراء حرب تحمل أبعاداً وتداعيات اقتصادية دولية، من ارتفاع لأسعار النفط والغاز والقمح وتضاعف تكاليف النقل الدولي، وبالتالي ارتفاع أسعار الغذاء. كان يمكن تفهم كل تلك المبررات، لولا أن الشفافية في تصريحات المسؤولين، وفي إجراءاتهم، ما تزال مفقودة. ناهيك عن شبهات الفساد وهدر المال العام، وسوء إدارة الموارد الشحيحة المتاحة.
كأحد الأمثلة على فقدان الشفافية، تهرّب وزير الاقتصاد من الإفصاح عن كفاية مخزون القمح في البلاد، رغم أن السؤال وُجّه إليه من صحيفة مقرّبة –الوطن-. فهل الإفصاح عن كفاية مخزون القمح في سوريا، “سرّ حربيّ”؟ أم أن لذلك “السرّ” قيمة خاصة لدى وزراء الحكومة؟
يحيلنا التساؤل الأخير إلى اتهامٍ خطيرٍ وجّهه ناشط موالٍ لوزير التجارة الداخلية، بالتورط في تمرير قمح مدعوم لصالح تاجرٍ مقرّب من مدير عام مؤسسة الحبوب الذي يتمتع بصداقة شخصية مع الوزير. بطبيعة الحال، لا يمكن الجزم بمصداقية هذا الاتهام، إذ قد يندرج في إطار صراعات المحاور والفاسدين داخل أروقة مؤسسات الحكومة والأجهزة الأمنية، خاصة أن الوزير الذي ردّ على منشور الاتهام، وصف الناشط الذي كتبه بـ “الوطني”، مما يؤشر إلى أن الناشط يحظى بغطاء من جهة أمنية ما. لكن ذلك يمثّل دليلاً آخر، على حالة الفساد والهدر التي تنال من الموارد الشحيحة المتاحة لدى حكومة النظام، والتي لا تصل جميعها إلى الفئات المستحقة، بخلاف مزاعم المسؤولين. ومن أبرز الأمثلة على ذلك، عدم استلام كثيرٍ من السوريين المستحقين لمخصصاتهم من المشتقات النفطية خلال العام الفائت. وتأخر رسائل تسليم أنبوبات الغاز المنزلي عبر البطاقة الذكية.
ومن الأمثلة عن الإجراءات غير الشفافة لحكومة النظام، والمثيرة للريبة حول أهدافها الحقيقية، قرار مصرف سورية المركزي السماح بتسليم الحوالات الخارجية التي تتجاوز قيمتها الـ 5000 دولار، بالعملة الصعبة. فيما لا يجوز ذلك للحوالات التي تقل قيمتها عن هذا السقف.
ومن المعلوم، أن معظم الحوالات التي يتلقاها حوالي ثُلثَي السوريين، تتراوح بين 100 و400 دولار. وهذه الحوالات تشكل مصدر المعيشة الأساسي لفئة ساحقة من السوريين اليوم. ويفرض المركزي على هؤلاء تسلم تلك الحوالات بالليرة السورية بسعر صرف 2500 للدولار الواحد، فيما سعر الصرف في السوق السوداء تجاوز الـ 3680 ليرة للدولار، أي أن المركزي يجعل غالبية السوريين يخسرون أكثر من ثُلث قِيَم حوالاتهم، فيما سيُتيح لمن يتلقى حوالات كبيرة، تتجاوز الـ 5000 دولار، أن يحصل عليها، بالعملة الصعبة، دون أية خسارة من قيمتها. والفئة المستفيدة من هذا القرار، هي رجال الأعمال والصناعيين والتجار. هذه الفئة ذاتها، التي سارعت لرفع أسعار منتجاتها على السوريين، بعيد قرار رفع الدعم عن 600 ألف أسرة، مؤخراً. وهي الفئة التي تسارع الآن لرفع الأسعار، بعد أن منحتها حكومة النظام المبرر الكافي لذلك، حينما تحدثت عن ارتفاع تكاليف الشحن العالمية، جراء غزو أوكرانيا.
وعلى سبيل الكوميديا السوداء، وفيما رفعت حكومة النظام تكاليف كل السلع التي تحتكرها وتقدمها للسوريين، قبل حتى الأزمة الأوكرانية، وتتوعد السوريين بإجراءات أقسى، بعدها.. يأتي تصريح وزير الاقتصاد ليقول أنه لا حجة للتجار السوريين برفع الأسعار، جراء الأزمة ذاتها، في سياقٍ مثير للسخرية. خاصةً أن الأسعار بدأت ترتفع بالفعل، خلال الأيام الثلاثة الأولى للغزو. والقادم أشد سوءاً.
فما ينتظر السوريين في الشهرين القادمين، سيبدأ بزيادة ساعات تقنين الكهرباء، التي كان سكان دمشق، قبل بدء الأزمة الأوكرانية، لا يرونها إلا ساعة واحدة مقابل ست ساعات قطع، فيما كانت تغيب بشكل شبه كامل عن بعض مدن الريف الدمشقي. كما وينتظر السوريين لهيب أسعارٍ جديدٍ، يزيد من استعار لهيب الأسعار السابق جراء قرارات رفع الدعم، دون أن ننسى خفضاً مرتقباً جديداً لكميات المشتقات النفطية المتاحة. والأخطر من ذلك، انهيار نوعي لسعر الصرف، خاصة إن طال أمد الأزمة في أوكرانيا، وتصاعدت تداعياتها الاقتصادية الدولية.
إياد الجعفري _ المدن