لو كنتُ تاجراً سورياً، فلن يلومَني أحد إن وصفت قرارَي مصرف سورية المركزي، الأخيرَين، بأنهما سرقة كاملة الأركان، لأموالي، من جانب “الدولة”. فلنتصور أن تاجراً سورياً، صدّر بضاعةً بقيمة 1000 دولار مثلاً. قيمتها وفق سعر صرف السوق السوداء الرائج حالياً، (3600 ليرة سورية للدولار الواحد)، هي 3.6 مليون ليرة سورية. لكن قرار المركزي الأخير، الخاص بإعادة قطع التصدير، ألزم التاجر، بأن يبيع 500 دولار من قيمة البضاعة التي صدّرها، لصالح مصرفٍ محلّي سوريّ، بقيمة 2512 ليرة للدولار الواحد (السعر الرسمي للمركزي). أي أن التاجر سيضطر لبيع الـ 500 دولار، بقيمة 1.2 مليون ليرة سورية تقريباً. فيما قيمتها الحقيقية هي 1.8 مليون ليرة سورية. أي أن التاجر سيخسر حوالي 30% من قيمة البضاعة التي قام بتصديرها، وذلك لصالح خزينة “الدولة”.ولأن معظم التجار السوريين يعملون على خطَي التصدير والاستيراد معاً، فإن التاجر المشار إليه، لن يستطيع الاستفادة من حصيلة تصديره للبضاعة في استيراد بضاعة أخرى إلى الداخل السوري، إلا بنسبة الثلثين، فقط. أي أن تجارته ستكون فعلياً، خاسرة. وسيضمحل رأس ماله، كلما قام بصفقات جديدة.
بطبيعة الحال، سيدافع منظّرو النظام الاقتصاديون عن القرار المشار إليه أعلاه، بأنه أُرفق بقرار ثانٍ، وفّر للتاجر -الذي على الأغلب، هو ذاته المستورد والمُصدّر- قنوات لتمويل مستورداته، بالقطع الأجنبي، بسعرٍ أقل من السوق السوداء. لكن حقيقة الأمر، أن القرار الثاني قيّد المستوردين، بذريعة ضبط سعر الصرف.فالمركزي، أصدر قراراً حصر فيه سبل توفير القطع الأجنبي للمستوردين، بأربع قنوات.
القناتان الأولى والثانية، هما حساب المستورد بالقطع الأجنبي، في المصارف السورية أو في مصارف خارج سوريا. وهاتان القناتان لا توفران سبلاً مستدامة للتمويل، فالتاجر يحتاج لتعويض السيولة المفقودة من حساباته الدولارية في المصارف داخل سوريا أو خارجها، بعد كل عملية استيراد. وما دام التاجر مضطراً، وفق قرارَي المركزي الأخيرَين، لأن يبيع نصف إيراداته من الدولار، لصالح “الدولة”، فهذا يعني أنه لن يستطيع توفير سيولة مستدامة من القطع الأجنبي في حساباته المصرفية.
أما القناة الثالثة التي حددها قرار المركزي لتوفير دولار الاستيراد، فهي شراء القطع الأجنبي من المصارف السورية، بالسعر الرسمي. وهي قناة وهمية. فلو كان التاجر قادراً على شراء الدولار لتمويل مستورداته من المصارف المعنية في سوريا، بسعر 2512 ليرة سورية للدولار الواحد (السعر الرسمي)، فلماذا يلجأ معظم المستوردين لشراء الدولار من السوق السوداء بسعر 3600 ليرة سورية للدولار الواحد؟! الإجابة ببساطة، أن المصارف في معظم الحالات، لا تقوم بتمويل صفقات الاستيراد، وتضع عقبات بيروقراطية تتعلق بالأوراق والثبوتيات المطلوبة، كي تتجنب منح المستوردين دولاراً بسعر أقل بـ 1000 ليرة عن السعر الحقيقي في السوق. وهو التفسير الذي يوضح سبب ازدياد طلب المستوردين على الدولار من السوق السوداء، في الآونة الأخيرة.
أما القناة الرابعة، التي حددها المركزي لشراء دولار الاستيراد، فهي شركات الصرافة المرخص لها القيام بهذه المهمة. وهي شركات الصرافة نفسها التي أعلنت منذ أسبوع تقريباً، استعدادها لبيع الدولار للتجار والصناعيين بسعر 3290 ليرة للدولار الواحد. وهذه هي القناة الوحيدة الواقعية لتوفير دولار الاستيراد، التي احتواها قرار المركزي المشار إليه.
ولنفرض هنا، أن التاجر اشترى بالفعل، الدولار من شركات الصرافة، بـ 3290 ليرة سورية للدولار الواحد. سيضطر لاحقاً، وفق قرار المركزي الخاص بإعادة قطع التصدير، لأن يبيع نصف دولاراته التي حصّلها من عملية التصدير، بسعر 2512 ليرة سورية للدولار الواحد، لصالح خزينة “الدولة”. بمعنى، أن التاجر سيخسر 778 ليرة سورية في كل دولار. لذلك، قلنا في بداية مقالنا، أن من حق التجار في سوريا، أن يصفوا قرارَي المركزي الأخيرَين، بأنهما، سرقة كاملة الأركان، لأموالهم.
مجدداً، سيدافع منظّرو النظام الاقتصاديين عن قرارَي المركزي، بأن آلية إعادة قطع التصدير، ليست بالجديدة، بل هي مطبقة في معظم تاريخ سوريا “الأسدي”، منذ نهاية الثمانينات. لكن هؤلاء المنظّرين، يتناسون أن الفرق بين السعر الرسمي لصرف الدولار، وبين السعر الحقيقي في السوق، مع عجز المركزي في السنوات الأخيرة عن تمويل معظم مستوردات التجار، يجعل هذه الآلية مضرّة للغاية، لعجلة التجارة في البلاد، وحتى لعجلة الإنتاج.
ففي السنوات التي كانت فيها هذه الآلية –إعادة قطع التصدير- تُطبق، كان السعر الرسمي لصرف الدولار، يتطابق مع سعر السوق السوداء، قبل أن يتغير هذا الواقع منذ العام 2012، الأمر الذي دفع حكومة النظام لتعليق آلية إعادة قطع التصدير بعد اتضاح ضررها على الحركة التجارية والإنتاجية في البلاد، منذ العام 2017.
ورغم أن قرار تعليق هذه الآلية لم يُطبق فعلياً حتى العام 2019، إلا أن إعادة إحياء هذه الآلية اليوم، تشكل ضربة غير مسبوقة لحركة الاقتصاد السوري، برمته. فالتاجر والصناعي في سوريا، في الوقت الراهن، يواجه جملة صعوبات غير مسبوقة، من نقص المحروقات وارتفاع أسعارها، إلى ارتفاع تكاليف النقل العالمية، ناهيك عن أتاوات الحواجز المحلية، من دون أن ننسى آثار تفشي كورونا على عجلة الاقتصاد العالمي، إلى جانب آثار العقوبات الغربية والأمريكية على حركة الحوالات المصرفية إلى سوريا.
يضاف إلى ما سبق، ازدياد وتيرة نشاطات الجباية التي تقوم بها مؤسسات “الدولة” المختلفة، على حساب التجار والصناعية إلى جانب الانخفاض الهائل في القدرة الشرائية للسوريين، بصورة عززت من دورات الركود في الأسواق المحلية.
بطبيعة الحال، تدرك حكومة النظام كل ما سبق، لذلك كانت تتريث في فرض هكذا قرارات مؤلمة. وقد مهدت لها منذ نيسان/أبريل الفائت، حينما أعلمت غرف التجارة والصناعة بنيتها إحياء آلية إعادة قطع التصدير. وكانت ردود فعل غرف التجارة حينها، أن النتائج ستكون سلبية للغاية. لكن حكومة النظام مضت في دراسة هذه الإجراءات، قبل أن تُصدرها في قرارَين للمركزي منذ يومين.فلماذا اتخذت حكومة النظام هذه الإجراءات رغم علمها بوجود آثار سلبية لها على الاقتصاد، ورغم معارضة قطاع الأعمال السوري لها؟
رأس جبل الجليد من الإجابة، يكمن في لجم تدهور سعر صرف الليرة السورية، التي هوت إلى أدنى مستوياتها منذ خمسة أشهر، بسبب الطلب على الدولار من جانب التجار وقطاع الأعمال. أما الجزء المخفي من جبل الجليد هذا، فيتعلق بتضييق شريحة التجار والصناعيين القادرين على العمل في سوريا، ودفع جزء كبير منهم للمغادرة، لصالح حفنة صغيرة من حيتان المال الجدد، الذين قرر النظام أن يجعلهم رأس حربته للاستيلاء على كل ما يتعلق بالمال والاقتصاد في سوريا.
وهكذا علينا أن نتوقع في قادم الأيام، هجرة ثانية كبرى لرؤوس الأموال المحلية، قد لا تكون أقل وطأة من تلك التي شهدناها في بدايات الثورة بعيد العام 2011. هجرة بدأت أصوات جريئة داخل قطاع الأعمال السوري تتحدث عنها بصراحة لوسائل الإعلام الموالية. فتباشيرها بدأت منذ أشهر، وستأخذ مداها في الأسابيع والأشهر القليلة القادمة. ليبقى في سوريا، أمراء وتجار الحرب الجدد، الذين يشكلون حجرَ أساسٍ في منظومة حكم آل الأسد، في السنوات المقبلة.
إياد الجعفري _ المدن