عندما نزل السوريون إلى الشارع مطالبين بحقوقهم في وطنهم، كان أمام السلطة السورية خياران، خيار يتطلب بداهة رجال دولة يتحملون مسؤوليتهم في لحظة تاريخية، فيعترفون بعمق الكارثة التي ألحقها حكم عائلة الأسد طوال عقود ببنية المجتمع السوري والدولة السورية، والعمل بصدق ومسؤولية مع السوريين للخروج منها، أو خيار المضي في نهج القمع وتجاهل الحقوق والحقائق.
كان من الطبيعي أن يذهب بشار الأسد، والحلقة الأقرب إليه، سواء من عائلته، أو من حيتان المال الممسكة بالاقتصاد السوري، والخائفة على نفوذها وأموالها التي نهبتها، إلى اعتماد القمع كخيار وحيد، إذ لا يمكن لبنية كبنية النظام السوري، تأسست علاقتها مع الشعب السوري على الدم والقمع، وحكمت طوال تاريخها بالدم والرعب أن تفكر بخيار آخر، أضف إلى ذلك دفع الحليف الإيراني بكل قوته لتبني هذا الخيار، وتولى “الولي الفقيه” عبر حزب الله، وعبر الحرس الثوري الإيراني “قاسم سليماني” قيادة هذا الخيار.
وهكذا ذهب بشار الأسد إلى طريق القمع، مستحضراً تجربة والده في حماة وغيرها، متوهماً أن السوريين سيعودون صاغرين إلى بيوتهم، مستعطفين عفوه، ومستجدين رضاه.
لم يستمع بشار الأسد لكل الأصوات التي ناشدته في عدم الذهاب في طريق الدم، سواء من الداخل أو الخارج، فقد كانت أذناه تستمعان فقط لما يقوله الإيراني الذي كان قد اخترق الكثير من مفاصل الدولة والمجتمع، وأقام شراكات نهب مع أفراد من عائلة الأسد ذاتها، ومع المقربين منها، وعبر هذه الشراكات استطاع أن ينشئ شبكة واسعة متنفذة تتبع له، وتأتّمر بأمره.
كانت الفرصة ملائمة جداً للإيراني الذي يخطط لابتلاع سوريا، وقرر أن لايفوت الفرصة التي قد لا تتكرر، وهو المتيقن تماماً أن أي حوار بين الشعب السوري والسلطة السورية سوف يؤسس لصيغة سياسية، قد تفوت عليه خطته الرامية للإمساك بسوريا وبقرارها، فدفع باتجاه المواجهة مع الشعب، وأغرق سوريا بمستنقع الدم، كي يغلق بوابة الحوار.
كانت النتيجة الحتمية والتي خططت لها إيران، وصرفت من أجلها مليارات الدولارات، والتي انخرط بشار الأسد فيها بمنتهى الحماقة، متوهماً أنها سفينة خلاصه، أن انهارت سوريا بكل مقوماتها، انهارت الدولة والمجتمع والاقتصاد، وأصبحت سوريا بلداً ضعيفاً، مقسماً ومستباحاً، الأمر الذي وجدت فيه أطراف دولية أخرى، فرصتها لإيجاد موطئ قدم لها، في بلد يسير إلى التفكك والانهيار، بلد لموقعه الجغرافي، ولإمكاناته الاقتصادية أهمية بالغة، فتحول الصراع بمجمله من حقوق طبيعية لشعب ثار ضد عصابة تحكمه، وتنهبه، وتتاجر بمصيره منذ عقود، إلى صراع دولي شديد التعقيد.
إذاً، استطاعت إيران أن تغلق بوابات الحوار، وأن تدّمر الدولة السورية، وأن تغرق سوريا بشلال الدم، وأسست ميليشياتها الطائفية الخاصة، وأمسكت بما تبقى من مؤسسة الجيش، وبأجهزة الأمن، وأدارات ما تبقى من الدولة، لكنّها لم تستطع أن تخضع الشعب السوري، وبدأت تغرق هي وحليفها في مستنقع الدم الذي سعوا إليه، عندها كان التدخل العسكري الروسي ضرورياً، ولا مفرّ منه، لبقاء سلطة عائلة الأسد، ولمصلحة إيران وروسيا أيضاً.
لم يكن أمام بشار الأسد وسط كل التعقيدات التي طرأت، ووسط تكاثر القوى المتدخلة بالشأن السوري، ووسط إصراره وإصرار من حوله على رؤية سوريا مجرد سلطة، وأن عليه التمسك بها مهما يكن الثمن، سوى أن يقايض إمكانات سوريا، وسيادتها، ومصير شعبها، وثرواتها، بالدفاع عن مصيره، ومصير عائلته، ومصير أفراد عصابته.
اليوم يعرف كل السوريين أن من يحكم سوريا فعلاً، ويدير كل أمورها، لم يعد سورياً، لكن الفاجعة التي ربما لم يتوقعها الكثيرون من الشعب السوري، وربما لم تتوقعها عائلة الأسد ومن حولها، أن يصل الأمر إلى حد أن تصبح عائلة الأسد وعصابتها، مجرد واجهة للآخرين، واجهة شكلية لا تمسك من أمرها، ومن أمر سوريا شيئاً، وأنها مجرد أداة يحتاجها الآخرون لاستكمال سيطرتهم ونهبهم لسوريا.
قبل عدة أيام قام وزير الخارجية الإسرائيلي “مائير لابيد” بأول زيارة له بصفته الرسمية إلى العاصمة الروسية “موسكو”، وفي المؤتمر الصحفي الذي عقده بعد اجتماعاته هناك، مع نظيره الروسي “سيرغي لافروف “، وفي معرض رده على سؤال حول الجولان السوري المحتل، أكّد “لابيد” أن لا محادثات بين “إسرائيل” والجانب السوري، مشيراً إلى أن ملف الجولان غير قابل للنقاش، بعبارة أخرى أعلن الوزير الإسرائيلي أن قضية الجولان انتهت، وطوي ملفها، وليس هناك ما يقال عنها.
باختصار لم يعد الطرف الروسي مجرد طرف يحمي تابعه في سوريا، بل أصبح حاكماً، ومالكاً يتصرف بحقوق السوريين، وبأرضهم، وبمصير وطنهملم يعلق الوزير الروسي، والذي يدير فعلياً السياسة الخارجية لسوريا، على رد الوزير الإسرائيلي، وبدت قضية الجولان المحتل كأنها منتهية فعلاً بينهما، وأن هذه الأرض السورية أصبحت ملكاً غير قابل للنقاش لـ “إسرائيل”، ليس هذا فحسب، بل إن الوزير الروسي ذهب أبعد بكثير من الصمت عن صفاقة “لابيد”، عندما صرح: “أن هناك مصالح مشروعة، مثل مصالح أمن اسرائيل، ونحن نؤكد دائما أنها من أهم الأولويات بالنسبة لنا في القضية السورية وغيرها من النزاعات”، أي أن أمن “إسرائيل” أصبح من أولويات السياسة السورية!
باختصار لم يعد الطرف الروسي مجرد طرف يحمي تابعه في سوريا، بل أصبح حاكماً، ومالكاً يتصرف بحقوق السوريين، وبأرضهم، وبمصير وطنهم، غير مهتم بفداحة الإهانة التي ألحقها بسوريا، وتاريخها، وتارخ شعبها، عندما يقولها عاليا أن أمن “إسرائيل” هو أولوية لسوريا.
يحدثنا التاريخ كثيراً عن الاحتلالات، والكوارث والهزائم التي تلحق بدولة ما، أو بشعب في فترة ما، لكنّه قلّما حدثّنا عن هذا الحد من الوضاعة والمهانة والخيانة، لمن يحكمون هذه الدولة، أو يمثلون هذا الشعب، الفاجع أن أحداً من كل الطبقة الحاكمة في سوريا، لم يستفزه هذا الاستهتار البالغ بسوريا، وبتاريخها وبشعبها وبسيادتها، ولم يخرج أي مثقف سوري، أو مفكر سوري ممن يصفقون لهذه العصابة، ليعلن عن غضبه أو رفضه لهذه الإهانة البالغة لسوريا.
بسام يوسف _ تلفزيون سوريا