syria press_ أنباء سوريا
قرع أحدهم باب غرفتي بشكل جنوني، وعندما فتحت له قال لي: “يللا قوم أنزل على المسيرة بساحة المدينة” ثم مشى في الممر وبدأ يصيح “الحيوان اللي ما نزل عالمسيرة ينزل فورًا”.
من قبيل المصادفة، تزامنت الانتخابات الرئاسية الماضية في سوريا (2014) مع فترة حسّاسة في حياتي، إذ كنتُ أخوض امتحانات التخرّج من جامعة دمشق، وأستهلك كل وقتي بين الكتب.
هذا النشاط في الدراسة لم يكن نابعًا من الرغبة بالتخرّج بقدر ما هو نتيجة حاجتي لقطع آخر الروابط مع “سوريا الأسد” ومغادرتها بأسرع وقت ممكن.
كنتُ أعيش حينها في الوحدة الأولى في المدينة الجامعية بدمشق، هذه الوحدة السكنية التي تطل على حي المزة الدمشقي، كانت متهالكة، الصرف الصحّي مسدود دائماً فيها ولا سبيل حتى لقضاء الحاجة في دورات مياهها، جدرانها المهترئة تبعث على التشاؤم والقلق المستمر، حتّى أن أحد مسؤولي المدينة الجامعية أخبرني حينها أن الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين سكن فيها فترة من الزمن.
لم أتحقّق من تلك المعلومة ولكنّها لا تبدو غريبة استنادًا لتهالك البناء.
مقابل باب المدينة الجامعية، وعلى أطلال شبابيك “الوحدة الأولى” كان هناك مغسلة سيارات عادية. كنت وما زلت أبغضها، وأكره تذكّر معاناتي معها، فمنذ أن بدأتْ التحضيرات للانتخابات الرئاسية، جلب صاحب هذه المغسلة مكبّرات صوت قويّة للغاية، وضعها في الشارع أمام باب مغسلته، وبدأ ببث أغانٍ بعثية ذات نفحة مناطقية وأخرى تمجّد الأسد على مدار الساعة.
على سبيل المثال كنتُ أستيقظ في الساعة السادسة صباحًا على صوت المغني علي الديك وهو يقول في أغنيته (تهنّا يا شعبي تهنّا بمحبة أسدنا) على أنغام موسيقاه الصاخبة التي بدت لي تلوّثًا سمعيًا خالصاً.
في فترة الظهيرة كان ايقاع الأغاني ينتقل إلى المطرب الطائفي بهاء اليوسف، الذي كان يغنّي لساعات مجموعة أغانٍ تدعو لتدمير وإبادة المدن السورية فوق رؤوس أهلها (يا بشار ومتلك مين.. أقصف جوبر مع عربين).. (كيفك فيا كيفك فيا.. يللا لنقصف داريا) وأشياء أخرى من هذا القبيل.
في المساء، كانت الأغاني التي تبث تضاعف من وتيرتها التحريضية والطائفية، فتتغنّى بالنصر على الأمويين وبأمجاد العباسيين في إسقاطات على السنة والشيعة في يومنا هذا، إضافةً إلى لطميات لم أكن أفهم منها الكثير.
على الضفاف الأخرى، كنت أجلس داخل غرفتي وأحاول إيجاد طريقة لأتمكّن من استئناف الدراسة في ظل هذه الفوضى الشعورية والموسيقية التي أعيشها. حاولت مرارًا النزول إلى المكتبة المركزية في باحة المدينة الجامعية ولكن الصوت كان أقوى هناك، حاولت التنقّل في حدائق المدينة الجامعية ولم يتغيّر شيء.
عندما ضاق بي الأمر وبكثير من الطلاب، قرّرنا التوجّه إلى مدير المدينة الجامعية وشرح مشكلتنا له، انطلاقًا من حاجتنا إلى بعض الهدوء لإتمام امتحاناتنا التي اقتربت. كان الذهاب إلى مدير المدينة الجامعية لمناقشة “انزعاجنا من الأغاني الوطنية” مغامرة بحد ذاتها إذ أنّها قد تقودنا نحو اتهام أنّنا “ضد الوطن” أو “معارضين للسيد الرئيس” أو أننا نحاول عرقلة العملية الانتخابية “الديمقراطية”، وفي سوريا كان من الممنوع إبداء أي انزعاج من النشاطات التي تمجّد الأسد سواء كانت مسيرات أو أغانٍ أو أي شيء من هذا القبيل.
تلقّينا وعودًا من مدير المدينة بأن يتحدّث مع صاحب المغسلة ولكنها بقيت وعوداً. لم يسمح لنا المدير بعدها بمراجعته في ذات الأمر، حتّى أنني صادفته ذات مرّة وتوجّهت إليه لأسأله عن صاحب المغسلة فكانت إجابته مقتضبة “ما مشي الحال”.
بعد أن غادرتُ سوريا عرفتُ عن طريق الصدفة أن مدير المدينة الجامعية حاول حينها حشد كل إمكانياته لإقناع صاحب المغسلة بتخفيض الصوت فقط لكن الأخير لم يستجب ولم يُعر مناشدات المدير أي اهتمام.
في أحد الأيام التي سبقت العملية الانتخابية، استيقظت صباحًا على ذات الأغاني، ولكن الصوت كان أقوى بكثير، شعرتُ لوهلة أن أحدًا ما وضع مكبر الصوت على نافذة غرفتي، وبينما كنت أفكّر في سبب قوّة الصوت، قُطعت أفكاري بعد أن بدأ أحد أعضاء “الاتحاد الوطني لطلبة سوريا” بقرع باب الغرفة بشكل جنوني، عندما فتحت له الباب قال لي: “يللا قوم أنزل على المسيرة بساحة المدينة” ثم مشى في الممر وبدأ يصيح “الحيوان اللي ما نزل عالمسيرة ينزل فورًا”.
لم يكن أمامي حل سوى أن نزلت إلى المسيرة وبعدها بدقائق غافلت عناصر الأمن وخرجت من المدينة الجامعية كلّها ولم أعد حتى المساء، وفي الأيام التالية بدأت أحزم حاجياتي وكتبي وأنطلق بها إلى حديقة تشرين القريبة لأدرس هناك، صحيح أن الحديقة كانت مكتظة بالجنود وعناصر الميليشيات الذين كانوا يتحرشون جسديًا ولفظيًا بالنساء أمام أعين الجميع دون أن يتمكّن أحدٌ من محاسبتهم، ولكن على الأقل لا أغان وطنية أو طائفية هنا، إنه المكان الأنسب للدراسة، أعترف الآن أنني تخرّجت من الجامعة في “سوريا الأسد” بفضل أضخم بؤرة تحرّش في سوريا.
قبل ساعات من مغادرة سوريا بلا عودة، مشيت بهدوء نحو مغسلة السيارات، أردت أن أرى للمرّة الأولى والأخيرة تلك الشخصية التي عجز الجميع عن إقناعها بتخفيض صوت الأغاني، كان صاحب المغسلة حينها يجلس أمام باب مغسلته مع مجموعة أشخاص يرتدون الألبسة العسكرية وحينها عرفتُ تمامًا لماذا فشل الجميع بالسيطرة عليه للتوقّف عن إزعاج الطلاب.
اليوم وبعد أن فاز الأسد بولاية رئاسية أخرى (يا للمفاجأة!) لا أجدُ فرقًا بين شخصية بشار الأسد وشخصية صاحب المغسلة، ففي “دولة الأسد” كان من المستحيل إقناع شخصُ عادي يملك مغسلة سيارات بالتوقّف عن وضع مصير الطلاب في خطر، فمن سينجح في إقناع بشار الأسد بالتوقّف عن “توارث الحكم” في القصر الجمهوري؟.
أحمد الأحمد _ درج