syria press_ أنباء سوريا
قرن من الزمن ولا زالت تداعيات الحروب العالمية تؤثر بشدة في الشرق الأوسط، الباحة الخلفية لساحات الحروب والصراعات العالمية، ففي حين سارت الدول العظمى المُتصارعة منذ ذلك الحين قُدُماً في نهضتها واستقرار سياساتها وشعوبها وتنميتها الاقتصادية العلمية والطبية والإنسانية، بقيت الباحة الخلفية تحت الحطام هناك حيث رُميت مُخرجات هذه الصراعات في مقايضات وبازارات وتوزع نفوذ جائر وغير متوازن ولا ينطلق من إدراك واقع واحتياجات شعوب المنطقة ولا يأخذ بعين الاعتبار تحقيق استقرارها. بازارات دُفنت على أثرها سوريا بكل ما تحمله من امكانات حضارية وبشرية وطبيعية، دُفنت تحت حكم نظام قمعي شمولي أقل ما يمكن وصف أثره بأنه مُدمر للإنسان وللمجتمع السوي ولدور سوريا ومكانها الطبيعي في ركب الإنسانية.
ولم يكن تدهور الشرق الأوسط بعمومه الا بتكريس هذا الانحدار الإنساني بسوريا، والتي كانت ستشكل فارقاً كبيراً بين ما تم تسخيرها له باستخدامها كأداة أدلجة وتقييد لشعوب المنطقة وبالتالي أداة انتهاكات وتجاوزات إنسانية ومولد للاستقطاب والتشدد وبين الدور الطبيعي لها بكونها جذر التنوع في الشرق الأوسط والقادر على احياء النتاج الإيجابي لهذا التنوع على المستوى الإقليمي والعالمي وتحييد الاستقطابات البينية من دينية ومذهبية وقومية واثنية وسواها.
وبنظرة سريعة على مسار دول المنطقة للقرن المنصرم نرى أن معظمها لم تقطع في مئة عام أي تقدم على صعد الحقوق والحريات وتحقيق العدالة والتوازن والاستقرار وهي المقياس الحقيقي للتطور والتنمية البشرية، وليس مقياسه الاقتصادي على عكس ما تُحاول ايهامنا فئات وشرائح مُستفيدة من حالة التقهقر المجتمعي والصراعات القائمة في المنطقة لتستمر بنفوذها ونهبها لثروات الشعوب والتحكم بمصائرها وحيواتها، فالاستقرار والتوازن والعدالة يصنع تنمية اقتصادية مستدامة تستفيد منها كافة الشرائح على عكس الهيمنة والتغوّل والتي تتطلب باستمرار تغذيتها بأحقاد وفتن ومؤامرات وتحملها مرتكزات زيف وتلاعب وحسب.
لم تكن اليد العليا في رسم مسار الشرق الأوسط مُرتبطة الا بهذا المنظور الاستهلاكي لبقعة غنية بالموارد الأحفورية وبمنظور جغرافي كموقع لمرور خطوط تجارية وخطوط نقل الطاقة وبمنظور ربحي كسوق لتصريف المنتجات والأسلحة وسواها، أي منظور استثماري وخدمي فقط وتم تغييب أي دور منتج للمنطقة كرديف لتقدم الحضارة الإنسانية، سواء على الصعد العلمية، القيمية، الإبداعية والمساهمة بتطوير مفاهيم الحداثة والنهوض بالشعوب بشكل متناغم بين كافة أرجاء العالم دون انقطاع ثقافي ومكاني. رغم أن شعوب المنطقة أثبتت عبر تاريخ البشرية مساهمة لا يمكن اغفالها بل يمكن اعتبارها رئيسية في بناء نظم معرفية وحقوقية واجتماعية وقيمية إنسانية.
ولا بد ان الثورات الشابة والتي انطلقت في المنطقة مُطالبة بالكرامة الإنسانية والحرية كانت ولا زالت هي المرتكز لإعادة الشرق لمكانته المدفونة لعقود تحت وطأة النظم القمعية، مكانة تحملها كافة الثقافات المشرقية من عربية وسريانية وكردية وتركمانية وأرمنية وشركسية وغيرها وبمختلف توجهاتها المذهبية والدينية على تعددها فالجامع الأوحد بين هذه الثقافات هي دور حضاري واحياء هذا الدور هو مرتكز الاستمرارية التي تشكل سوريا الإطار القادر على احتواء هذا التنوع والنهوض به بشكل ثابت وواضح بعد انتهاء الحكم الهمجي الذي يسيطر على ما يزيد عن نصفها اليوم.
يحتاج ذلك بالتأكيد لوجود عوامل دافعة ليتحرك ثقل محور التقدم والنهوض بالشرق الأوسط لتكون سوريا عاموده ومحركه الأساسي، هذه العوامل التي تتزايد تأثيراً يوماً بعد يوم مع ما يواجهه العالم من سلبيات نجمت عن منهجية التوسع والتمدد العشوائي، وعن اغفال دور التنوع الثقافي والاثني والانساني كعامل رئيسي للتصدي للانحرافات المتشددة والمتطرفة، والنتائج الكارثية عن اعتماد الانعدام القيمي والتغول المصلحي كمرتكز للسياسيات العالمية، سلبيات تعجز الدول عن السيطرة على تداعياتها على الصعد الداخلية والخارجية مترافقة بتحديات إنسانية متسارعة تمنح الأولوية لنقيض هذه الممارسات السائدة لإنهاء نتائجها الكارثية.
يبقى السؤال الأهم اليوم، للساعين لبناء ثقافة إنسانية سليمة في المنطقة تنطلق من سوريا كرافعة للنهوض، هو مدى استعداد ووجود الأرضية اللازمة لمثل هذا البناء، وعدم الوقوع في دورة زمنية جديدة تحت حكم التقهقر باستخدام نفس الأدوات واصدار نفس النتائج. يحتاج ذلك فعلياً لحوامل صلبة لها مرتكزات مكانية على الأراضي السورية خارجة عن أي هيمنة قمعية على أن تحيّد منها أي تأثيرات للمنظومة القديمة الشمولية الممتدة في معظم بلدان المنطقة والصانعة للتقهقر الإنساني فيها.
لنطلب بوضوح من كافة الدول التي لا تحمل ولا تطبق قيم احترام التنوع والسعي للحرية وتطبيق حقوق الانسان وحفظ كرامته في أراضيها أن تبتعد عن المسار السياسي السوري وألا يدعي أحد الوقوف بصف السوريين في حين أنه يعيق وصولهم للحرية ويمد يده لنظام الاجرام بالخفاء وبالعلن، لنحدد فعلاً من هي الشعوب الحرة القادرة على دعم مسار حريتنا لتقف بصفنا.
لنبني مرتكزات عقود اجتماعية عادلة تعتمد على السوريين أنفسهم، وتستمد من تاريخهم ومن واقعهم ومن صناعة المستقبل والاستمرارية فيه. لنرفض أن تستخدم سوريا مكباً للتطرف والتشدد ولفكر من خارج حدودنا القيمية كفانا أن نكون مكسر العصا لصراع دول لا تحترم فردية الحالة السورية وأنها ليست امتداداً لأحد ولا تحترم حق الشعب السوري بتقرير مصيره وهيمنت وتهيمن على مسار الحراك السوري منذ عقد من الزمن لتحرف مساره وتقوده للفشل. لنعيد الإمساك بزمام أمورنا فالريادة مُستحقة أثبتها الحاضر قبل الماضي.
د.سميرة مبيض _ نواة سوريا