بين ما رشح مؤخراً من عزم الإدارة الأميركية الجديدة بناء استراتيجية للتعامل مع الوضع السوري تتضمن البقاء عسكرياً في شمال شرقي البلاد، والتمسك بعملية السلام وفق القرار الأممي «2254»، والتقرير السنوي لوزارة الخارجية الأميركية حول الإرهاب الصادر في السادس عشر من هذا الشهر، الذي خلص إلى تحميل النظام السوري مسؤولية العنف وقمع شعبه باسم الإرهاب، حين أطلق سراح الآلاف من المتطرفين الإسلامويين من سجونه، واستجر ميليشيات شيعية بعضها مصنفة كمنظمات إرهابية، بين هذا وذاك، وبين سنوات كثيرة كانت مترعة بمواقف أميركية مبهمة ومتناقضة واتسمت بالسلبية وعدم الاكتراث بالعنف الدموي الدائر في البلاد، ثمة ما يصح اعتباره ثوابت أو محددات لا تزال تتحكم بالسياسة الأميركية تجاه سوريا، من الضروري والمفيد استخلاصها كي توضع تلك السياسة في نصابها الصحيح، من دون تقزيم أو تضخيم أو رهانات مُبالَغ فيها.
أول تلك الثوابت هو غياب الهدف، ولنقل الرغبة الأميركية في إطاحة النظام السوري القائم، فالولايات المتحدة التي كررت بداية الدعوات لرحيل النظام، وأعلنت عدم أهليته للحكم، وشددت العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية عليه، وحذرت من عقاب رادع في حال كرر استخدام السلاح الكيماوي، هي نفسها التي شجعت التفاوض معه، وغضَّت النظر عن دور روسيا في إنقاذه، ولم تبذل جهوداً حثيثة وحاسمة لمعاقبة المرتكبين، أو لدعم المعارضة السورية وتمكينها من ترحيله، الأمر الذي يدعو المراهنين على وجود نيات مبيتة للإدارة الأميركية بإسقاط النظام السوري، إلى إعادة النظر في حساباتهم، والسبب لا يتعلق فقط بقرب سوريا من الحليف الإسرائيلي والتحسب من مدى تأثير التغيير الجذري فيها على مصالح تل أبيب وأمنها الاستراتيجي، أو بما يمكن أن يرافق إسقاط النظام من فوضى واضطراب يهددان أمن بلدان الجوار واستقرارها، وإنما أيضاً بالخشية من البديل القادم، الذي يرجح، في ظل ضعف المعارضة الديمقراطية وتشتتها، أن يكون سلطة إسلاموية حاضنة للإرهاب تحدوها تربة مواتية لنمو التطرف الإسلاموي، تزداد خصوبة بعد سنوات من صراع مذهبي ذهب أصحابه فيه إلى آخر الشوط.
لكن ذلك لا يعني أبداً أن الإدارة الأميركية ترغب في استمرار النظام القائم، كما هو، بل تريده ضعيفاً تناغماً مع نهج طالما مارسته حكومة إسرائيل، متوسلة لهذا الغرض تفعيل أدوات الضغط الاقتصادي والحصار السياسي والاستمرار في تطبيق جوهر عقوبات قانون قيصر، بما في ذلك إعاقة محاولات التطبيع معه، والتأكيد على أولوية التقدم بمسار التسوية السياسية كشرط للانفتاح ولمساهمة الدول العربية والأوروبية بإعادة الإعمار.
ثاني الثوابت هو مرونة الموقف الأميركي من الدور الإيراني في سوريا، وتالياً من مشروع تمدد طهران ونفوذها الإقليميين، فواشنطن صمتت عن تنامي دور الحرس الثوري ثم دخول «حزب الله» على خط الصراع السوري، وأيضاً عما جرى من تسعير طائفي أو فتك وتنكيل على أساس مذهبي، وعن اتساع محاولات التهجير والتغيير الديموغرافيين لترسيخ الوجود الإيراني هناك، ربما في رهان على أن تشكل مرونتها هذه حافزاً لتشجيع طهران على وقف برنامجها النووي، والالتزام باشتراطات الاتفاق معها، وربما للإفادة من استمرار خطر إيران ونفوذها في ابتزاز دول المنطقة، ولا يغير هذه الحقيقة سعيها أحياناً، لمحاصرة هذا الوجود وتحجيمه، إن عبر المعلومات الاستخباراتية التي تقدمها لإسرائيل لتمكينها من تدمير شحنات الأسلحة ومخازن الميليشيات الإيرانية في سوريا، وإن عبر توظيف وجودها العسكري في شرق البلاد، ليس فقط لمواجهة فلول «داعش»، وإنما أيضاً لقطع طريق التواصل البري بين دول ما سُمّي «الهلال الشيعي».
استدراكاً، ومع وجود رغبة راهنة لواشنطن في إبقاء قواتها في سوريا، ثمة ثابت ثالث جوهره تصميم أميركي جمعي على تجنب تفعيل أو توسيع أي دور عسكري مباشر لقواتها في الصراع السوري، والاكتفاء بالعمل من الخلف أو من بُعد، تحديداً بعد تجربتيها المريرتين في أفغانستان والعراق، خصوصاً في بلد كسوريا ترتبط أزمته بعدد من الملفات الإقليمية الحساسة والخطيرة، ويرجح أن تكون تبعات وأثمان الدور العسكري فيه باهظة ويصعب تعويضها، والقصد أن التصعيد اللفظي والسقف المرتفع لتصريحات أميركية تجاه الوضع السوري، لم يخدعا سوى قلة قليلة أخذتها أوهامها ورغباتها بعيداً، وراهنت على دور عسكري أميركي يقلب توازنات القوى رأساً على عقب، بينما الحقيقة أن لغة التهديد والوعيد لواشنطن ضد النظام وحلفائه لم تكن في أصعب محطات المحنة السورية، وأشدها إيلاماً سوى زوبعة في فنجان، وظفت، غالباً، كورقة للتفاوض ولامتصاص الضغط الأخلاقي الناجم من صور مروعة لضحايا مجزرة أو سلاح كيماوي سبق واعتبرت خطوطاً حمراء.
يعزز الثوابت السابقة أن سوريا لم تحتل ولن تحتل في المدى المنظور موقعاً متقدماً في سلم اهتمامات البيت الأبيض، بل يرجح أن تبقى في أسفل درجات السلم، إن بسبب تواضع المنافع الاقتصادية والتجارية لبلد ريعي لا يمتلك ثروات باطنية مغرية؛ فكيف الحال وقد طاله خراب معمم، وإن بسبب قيمتها المحدودة في حسابات التنافس على الهيمنة العالمية، ربطاً بميل الإدارة الأميركية للاهتمام بالوضع الداخلي وهمومه الاقتصادية والاجتماعية، وتقدم تحديات خارجية معلنة، أوضحها ردع مخاطر صعود الصين كمنافس اقتصادي ومنازع على موقع الريادة، وفي الطريق توظيف البؤرة السورية كمستنقع استنزاف لخصومها وأعدائها، كروسيا وإيران، وإرهاقهم وتعميق أزماتهم.
صحيح أن السياسة الأميركية تجاه سوريا لا تحكمها الرغبات والأمنيات، بل تستند للمصالح وموازين القوى والأهداف المتوخاة من هذه المنطقة من العالم، وصحيح أن المأساة السورية وصلت إلى حدود لا يمكن معالجتها بصورة ناجعة إلا عبر توافق دولي وتدخل خارجي حاسم، لكن الصحيح أيضاً أن ثمة جهوداً يُفترض أن تُبذل باستمرار من قبل السوريين الطامحين بتفعيل الدور الأممي، أوضحها المثابرة على توثيق الانتهاكات والجرائم لمحاسبة ومحاكمة المرتكبين، ثم الإفادة من كل منبر لتعميم محنة أبناء شعبهم، وما يكابدونه، بأمل تحويل ما يتراكم من تعاطف إنساني معهم إلى رأي عام ضاغط، ولعله حلم، لكنه الخيار الصائب، استثمار الفرص المتاحة لبلورة كتلة ديمقراطية مقنعة يمكنها أن تغير الصورة المؤسفة للمعارضة السورية والتقدم لنيل الثقة كبديل للنظام القائم.
أكرم البني _ الشرق الأوسط