كان من اللافت مؤخرا صدور تصريحات عديدة من مسؤولين أتراك حول العملية العسكرية التركية وسرد السياقات المتعلقة بها، حيث تم التطرق في تصريح وزير الخارجية مولود تشاوش أوغلو بداية لسياقات مكافحة الإرهاب بالمنطقة والعالم، ومن ثم لاحقا تصريح للرئيس رجب طيب أردوغان عن دعوة روسية للتعاون مع النظام في مكافحة الإرهاب، ومن الملاحظ أن كلا التصريحين لم يتم نقلهما بشكل كامل وحرفي، أو أن معظم الجهات الإعلامية والمتابعين نقلوا جزءا منها دون التطرق إلى السياق الكامل لها، فتولد جو عام لدى السوريين أن للحكومة التركية سياسة جديدة في سوريا، قائمة على التعاون مع النظام مستقبلا في مسألة محاربة الإرهاب.
وزير الخارجية التركي في مقابلته بتاريخ 27 تموز/يوليو الماضي يقول في كامل جوابه عن العمليات العسكرية التركية الجديدة في سوريا، وخاصة تل رفعت ومنبج، متحدثا بشكل مفصل عن حقوق الدول في مكافحة الإرهاب وحق تركيا في هذا الإطار، منتقدا معارضة العملية من قبل الدول المعنية وخاصة أميركا وروسيا وإيران، فتحدث عن هدف بلاده مع استمرار وجود الإرهاب إذ إن “روسيا وأميركا لم تلتزما بالاتفاقيات الموقعة مع تركيا بالعام 2019 بإنهاء وجود الإرهابيين المستمر في المنطقة، متسائلا لماذا تدعم أميركا الإرهابيين، هل تريد تقسيم سوريا أو لتوظيفهم ضد تركيا، ويجب إيضاح ذلك من قبل واشنطن، كما يجب ترك حجة مكافحة داعش بجانب آخر، فأميركا لماذا احتلت العراق واحتلت مع الناتو أفغانستان، قالت هناك إرهابيون وأسلحة دمار شامل فجاؤوا من أميركا كل هذه المسافة لوجود تهديد عليها، فيما تعارض كفاح الحليف التركي الذي يعاني من خطر وجود الإرهابيين على الحدود الجنوبية، والكل شهد كيف أميركا غير صادقة بمكافحة الإرهاب مع الانسحاب من أفغانستان، بالمقابل تأمل روسيا بدمج الإرهابيين مع النظام وهذا خطأ أيضا، أميركا من جهة تدعمهم (قوات سوريا الديمقراطية) لتقسيم سوريا، وروسيا تسعى لدمجهم مع النظام، وروسيا دخلت أوكرانيا لوجود تهديد، فترى نفسها محقة رغم أني أرى ذلك خطأ، فلماذا تمانع كفاح تركيا ضد الإرهاب، وإيران ما هو همها؟ التنظيمات الإرهابية (PKK. YPJ, PJAK) كلها وجوه لشيء واحد، وكانت هناك لقاءات لتركيا مع إيران من أجل كفاح هذه التنظيمات، وتركيا تدعم النظام في قتالها (هذه التنظيمات) سياسيا، ومن حق النظام الطبيعي مكافحة الإرهاب على أراضيها، وبي كي كي تنظيم إرهابي، ولكن من غير الصواب أن يعتبر النظام المعارضة المعتدلة إرهابية، وبالنهاية الكل يقول رأيه ويقدم تقييما، ولكن نرى كل طرف عندما يرى تهديدا ماذا يفعل، والمهم ماذا تقول تركيا عندما تشهد خطرا، وعندها تهدف لتحييد الإرهاب، وهذا الهدف الرئيسي لتركيا من عملياتها العسكرية، ولهذه العمليات فائدة لسوريا بوحدة أراضيها وحدودها وخاصة مع تطهير الأراضي من الإرهابيين وهو أمر مهم لوحدة سوريا”.
هذه التصريحات الكاملة للوزير التركي وسياق الجواب عليها، قرئت إعلاميا بشكل ناقص من قبل السوريين، وخاصة أنها نشرت متجزأة، على أنها اعتراف من أنقرة بحق النظام في قتال الإرهابيين بشكل عام، ولكن حديث الوزير التركي كان يخص تنظيم بي كي كي الإرهابي فقط، وشدد على رفض أنقرة تصنيف النظام للمعارضة السورية بأنها إرهابية، وتسجيل المقابلة موجود بشكل كامل على موقع يوتيوب ويمكن لأي متقن للغة التركية أن يعود إلى المقابلة الكاملة، ومن هنا واضح أن السياق العام لجواب جاويش أوغلو يتعلق بمقاربة الأطراف الرافضة للعملية العسكرية التركية الجديدة في المنطقة وهي أميركا وروسيا وإيران والنظام، ومقاربة كفاح الإرهاب، وأخرجت التصريحات من سياقها العام، ولم تنشر كاملة، ما تسبب في بلبلة كبيرة قرئت على أنها تغير بمواقف تركيا حيال النظام والعمليات العسكرية الجديدة، وجعلت أطرافا سورية تصدر بيانات لتوضح على دور النظام بالتعاون مع الإرهابيين وتصديرهم إلى كل المناطق السورية.
أما تصريح الرئيس أردوغان على متن طائرة العودة من سوتشي إلى تركيا قبل أيام عقب لقائه مع بوتين، حول تعاون أجهزة المخابرات التركية مع نظيرتها لدى النظام، فهي أيضا بدورها تم تناقلها بشكل مجتزأ، وهذا يطرح التساؤل عن تعمد هذا الاجتزاء وسبب النشر منقوصة دون الرجوع للأصل الكامل للتصريحات، حيث قال أردوغان بشكل حرفي “بوتين لديه مقاربة تقوم على تفضيله لجوء تركيا إلى خيار حل مسألة مكافحة الإرهاب مع النظام فتكون خطوة صائبة أكثر، ونحن نقول أجهزة استخباراتنا تتواصل أساسا مع استخبارات النظام حول هذه المواضيع ولكن المهم التوصل إلى نتيجة، فإن كانت أجهزة مخابراتنا تلتقي مع مخابرات النظام ورغم ذلك يسرح الإرهابيون بالمنطقة، فيجب عليكم (روسيا) دعمنا بهذا الأمر، ولدينا اتفاق في هذا الخصوص”.
التصريحات واضحة بأن روسيا لديها مقاربة محددة في مجال مكافحة الإرهاب وهو أمر ليس بجديد لأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أشار عدة مرات لوجود اتفاقية أضنة ولطالما تطلب روسيا من تركيا أن تكون الاتصالات مباشرة مع النظام سياسية ليكسب الأخير شرعية، وهو ما ترفضه تركيا خاصة أن أنقرة قادرة على إجبار النظام على التقيد وتنفيذ الاتفاقيات مع روسيا التي تعتبر المشغل الفعلي للنظام، كما أن أردوغان سبق أن تحدث في تصريحات سابقة عن تعاون استخباري بين تركيا والنظام، وهذا التعاون تحدثت عنه مصادر تركية بأنها كانت من أجل تشكيل المناطق الآمنة ومناطق خفض التصعيد، وهي لقاءات على مستوى متدني، وبالتالي لا جديد في هذه التصريحات وإنما تأكيد للمقاربة الروسية لأي عملية عسكرية تركية في سوريا.
ومع توضيح سياق التصريحات السابقة وفي ظل اللقاءات التركية الروسية قبل أيام في طهران وسوتشي، ومع عزم تركيا على المضي قدما بالعملية العسكرية بعمق 30 كم، فإن ملامح العملية العسكرية التركية بدأت تتوضح، وهي مؤكدة بأنها ستتم، وتوقيتها لا يزال قيد البحث واستكمال التفاهمات، وربما تصل التحضيرات لنهاية الصيف وبداية الخريف، نظرا للحاجة الداخلية التركية على الصعيد السياسي والأمني والاجتماعي والاقتصادي، وفي ظل طرح المقاربات الروسية عن تفضيل قتال التنظيمات الإرهابية مع النظام، تحضر سيناريوهات سابقة في العمليات العسكرية التركية السابقة، فعلى سبيل المثال عند إجراء عملية درع الفرات، وعندما تمكنت تركيا من تطهير المنطقة من عناصر تنظيم داعش، تسلمت قوات النظام مواقع من التنظيمات الانفصالية لتشكل حدود التفاهم في هذه المنطقة وترسيخ وقف إطلاق النار فيها منذ العام 2016.
وانطلاقا من المثال السابق يمكن الحديث عن سيناريو العملية العسكرية الجديدة بالتوافق بين تركيا وروسيا على أن تسيطر قوات الجيش الوطني بدعم تركي على مدينة تل رفعت، وتستلم قوات النظام جنوبها ما يرسم حدود المنطقة ويخضعها لوقف إطلاق النار، والأمر نفسه يتعلق بمدينة منبج التي يمكن أن تسيطر قوات الجيش الوطني بدعم تركي على مركز المدينة، وتتقدم قوات النظام وتسيطر على الطريق الدولية إم4 وتشكل حدود وقف إطلاق النار بالمنطقة، وهذا السيناريو الأقرب للتوافق عليه في ظل البحث عن التوازنات في المنطقة لإتمام التفاهمات بين تركيا وروسيا وهو ما يضمن حلا لمشكلة الميليشيات الإيرانية بالمنطقة التي هددت تركيا باستهدافها في حال عرقلت العملية العسكرية في ظل استمرار الرفض الإيراني لها، أي أن يتم استكمال تشكيل المنطقة الآمنة من قبل تركيا، وتكسب روسيا قوات النظام مزيدا من مناطق السيطرة، وتحديد وتقييد وجود التنظيمات الانفصالية بهذه المنطقة.
محمد شيخ يوسف_ تلفزيون سوريا