يجتهد نظام الأسد وإعلامه، في الترويج لفكرة أنه متلهف لإعادة اللاجئين السوريين إلى بلدهم، لهدف واضح هو محاولة استغلال قضيتهم للتربح الاقتصادي والسياسي، عبر استجداء المساعدات الخارجية والبحث عن مزيد من الشرعية الدولية.
وبطبيعة الحال، معظم المهجرين سواء داخل البلاد أم خارجها، يتوقون للعودة إلى بلدهم ومدنهم وقراهم، لكن في حال توفر الحد الأدنى من شروط الأمان والحياة الطبيعية، وهو أمر غير متاح في ظل تواصل وجود نظام الأسد الذي تسبب أصلا في تشريدهم، وإبعادهم عن بيوتهم.
ومع ذلك، ورغم إدراك الجميع أن حملات النظام في هذه الاتجاه، إنما هي دعائية وتوظيفية، لكن ثمة العديد من الناس أرادوا تجريب خيار العودة، تحت ضغط وضعهم المادي المتردي، حيث معظم هؤلاء من النازحين في الداخل السوري، ممن قضوا سنوات في استئجار منازل في الضواحي، باهظة الكلفة قياسا لدخولهم المتواضعة، حتى بالنسبة لأولئك الذين تصلهم حوالات مالية من أبنائهم خارج البلاد.
غير أن الصدمة كانت بالنسبة لهؤلاء هو حجم التدمير والتخريب الذي لحق ببيوتهم، والتي خرج بعضها سليما أو فيه خراب جزئي من الحرب، برغم تعمد قوات النظام في كثير من الحالات، إلحاق الأذى والتدمير بممتلكات سكان بعض المناطق، دون موجبات عسكرية، بهدف الاستيلاء لاحقا على هذه المناطق، وتقديمها لأعوان النظام وميليشياته، أو لتجار الحرب ليقيموا عليها مشاريع اقتصادية.
وهذا التدمير الذي حصل بعد أن وضعت الحرب أوزارها، مصدره عمليات التعفيش واسعة النطاق التي جرت في كثير من المناطق السورية، وخاصة في ضواحي دمشق. فلا تقتصر عمليات التعفيش على أثاث المنازل أو الأدوات داخل المعامل والمزارع، بل تشمل “البنى التحتية” لتلك المباني أي الحديد في الأسقف والأعمدة، إضافة إلى الأبواب والنوافذ والمطابخ وتجهيزات الحمام، وكل ما يمكن نهبه وبيعه، وكل ذلك يتطلب تهديم ما لم تهدمه الحرب، للحصول على الحديد والنحاس والزجاج، فضلا عن الأبواب والنوافذ والسيراميك، وكابلات الكهرباء ومواسير المياه.. الخ ما يعني هدم المنزل كاملا تقريبا، أو على الأقل نزع كل كسوته الداخلية، ما يضاعف كثيرا من تكاليف عمليات الترميم التي تقع بالكامل على عاتق أصحاب المنزل، دون أية مساعدة من حكومة النظام.
ولا يخفى على أحد أن عمليات التعفيش تلك إما قامت بها قوات النظام نفسها مباشرة بعد السيطرة على كل منطقة كانت بيد المعارضة، أو تركتها لـ “القوات الرديفة” التي تتولى تقاسم تلك المناطق فيما بينها، باعتبارها مستباحة كليا، وتشكل “غنائم حرب” من “الأعداء”، حتى انتعشت في مرحلة من المراحل أسواق التعفيش في العديد من المناطتحت مسمع ومرأى من سلطات النظام.ويأتي بعد ذلك دور المعفشين الثانويين وهم من صغار التجار والعاطلين عن العمل والذي تسمح لهم حواجز النظام بالعبور إلى تلك المناطق (مع منع أو التضييق على السكان الأصليين) وذلك مقابل إتاوات معينة تحصل عليها من هؤلاء المعفشين الصغار والذين يتولون البحث عما قد يكون أفلت من أيدي عناصر النظام، بينما تتولى شركات ومجموعات متخصصة استخراج الحديد والنحاس من خلال ورش عمل يمتد عملها لأسابيع وأشهر طويلة.
إن استكمال هدم ممتلكات الأهالي عبر عمليات التعفيش المنظمة التي تكون المهمة الأولى والمستعجلة عقب سيطرة قوات النظام على أية منطقة، ليس هدفها فقط مكافأة عناصر تلك القوات ممن شاركوا في السيطرة على تلك المناطق، وهي مكافأة مستحقة، وفق ما يرى الموالون في تعليقاتهم على وسائل التواصل الاجتماعي، و”أقل ما يقدم” لمن “خاطر بحياته للدفاع عن البلد”، وفق أقوالهم، بل هدفها الأساسي معاقبة سكان تلك المناطق، والأهم منعهم من العودة إلى مناطقهم، أو جعل هذه العملية صعبة ومكلفة جدا، بهدف الاستيلاء على ممتلكاتهم ومزارعهم ومصانعهم، كما حصل فعلا في العديد من المناطق، ودفع سكانها تاليا للهجرة خارج البلاد، باعتبارهم مجرد “أعداء محتملين”.
والواقع أن هذا السلوك الانتقامي- التعفيشي، يشكل أحد الاعمدة الرئيسية لحكم آل الأسد، مذ عفش شقيق رئيس النظام السابق رفعت الأسد البنك المركزي السوري في ثمانينيات القرن الماضي، وعفشت قبل ذلك ميليشياته المسماة “سرايا الدفاع” مساحات واسعة من الأراضي المحيطة بدمشق لإقامة مستوطنات لعساكرها وعائلاتهم عليها، وصولا إلى “التعفيش الكبير” المستمر منذ عشر سنوات، وعلى رأسه محاولة تعفيش تطلعات الشعب السوري في الحرية والكرامة وبناء وطن حقيقي لكل أبنائه.
عدنان علي _ تلفزيون سوريا