“الحياة في تركيا قاسية على الجميع، لكنها أقسى على النساء. أنا امرأة وحيدة دائمة البحث عن سقف يؤويني وصغيري، لست طالبة.. أنا امرأة مكافحة، وسكن النساء المشترك في هذه البلاد للطالبات فقط” علا (اسم مستعار)، فضلت عدم التصريح باسمها لأسباب اجتماعية، شابة سورية صاحبة الـ 36 عاماً تتحدث عن تحدٍ واجهته في الحصول على غرفة تسكن فيها.
علا غير قادرة على إيجاد منزل منفصل للإقامة، الإيجارات غالية، وبارتفاع مستمر، الأحياء المتاحة أمام السوريين للاستئجار قليلة، أما السكن المشترك، المرخّص رسمياً، فغالباً يكون تابعاً للمؤسسات التعليمية، ويخدم طلابها فقط.
تواجه كثير من السوريات الوحيدات في تركيا، مشكلة عدم الحصول على سكن يتناسب وظروفهنّ الاقتصادية والاجتماعية، وعدم القدرة على الوصول إلى السبل القانونية لتثبيت عناوين إقاماتهنّ.
وللبحث عن أسباب هذه الصعوبات أجرينا مقابلات مع نساء سوريات حاملات بطاقة الحماية المؤقتة في تركيا، تحدثن عن تجاربهن في الحصول على سكن مشترك، وتحدي تثبيت العنوان في النفوس.
كما تواصلنا مع مكاتب عقارية لاستعراض وضع إيجارات الشقق والغرف المنفصلة والمشتركة.
تقيم علا في إسطنبول مع ابنها الصغير ضمن غرفة علوية تابعة لشقة من طابقين “دوبلكس” تسكنها أربع فتيات عربيات من جنسيات متعددة، وتعمل في مجال السياحة الطبية كمنسقة لمواعيد المرضى العرب.
إما ابنك أو الغرفة
بدأت علا حديثها لروزنة “أنا أم وحيدة في إسطنبول، انفصلت عن زوجي بعد أن أنجبت صغيري الجميل، وبدأت رحلتي في البحث عن مسكن يتناسب مع دخلي، كالبحث عن إبرة في كومة قش”.
وتضيف “الجميع رفض تأجيري غرفة مشتركة، وكنت أواجه الإجابة المحبطة -نحن آسفون- لا يوجد سكن لك ولطفلك معاً، كوني وحدك، يا أهلاً وسهلاً”.
يتنشر في تركيا شكل من عقود الإيجار، يطلق عليها اسم “سكن شبابي” هذه المساكن عبارة عن منزل واسع يحوي غرفاً متعددة، وفي كل غرفة مجموعة من الأسرّة حسب مساحتها.
يستأجر الشخص سريراً ويستفيد من المطبخ والحمام المشترك، ويكون غير مسؤول عن أي فواتير أو ضرائب فهي مقتطعة ضمنياً من الإيجار الشهري، العديد من هذه المساكن مخصّص للرجال، وبنسبة أقل بكثير للنساء.
عند سؤالنا لأحد الوسطاء العقاريين في إسطنبول عن سبب عدم انتشار مساكن مشتركة للنساء بشكل كافٍ أجابنا “لمن ترغب بالاستئجار لدي بيوت منفصلة، وببدل إيجار متفاوت، أما سكن مشترك لا، السكن المشترك عندنا متوفر للرجال فقط”.
وأضاف “أنا عن نفسي، لا أتدخل ولا أقبل الإعلان لبيوت النساء المشتركة، مشكلات النساء كثيرة، أنا بغنى عنها وكثير من العاملين في مجال العقارات، يوافقونني الرأي”.
كما يبدو، حصول علا على فرصة السكن المشترك ضعيفة، وهي أيضاً مع طفل صغير، وهذا ما يجعل العملية معقدة للغاية.
هذه التحديات دفعت علا لخوض تجربة وصفتها بـ”المجنونة”، حيث نشرت في فيس بوك أنها بحاجة إلى شريكات سكن، وتعرَفت إلى مجموعة من النساء العربيات، اتفقنّ سويةً على استئجار منزل طابقي، أخذت علا القسم العلوي لتتمتع بالاستقلال والراحة مع طفلها.
قصة علا لم تنتهِ بعد، فلا بد من تثبيت السكن في النفوس وتحديث البيانات في دائرة الهجرة.
تثبيت النفوس للسوريين
واحدة من أشد وأعقد المشكلات التي يواجهها السوري حامل بطاقة الحماية المؤقتة اليوم في تركيا، تثبيت السكن.
حيث حددت وزارة الداخلية التركية مئات الأحياء التي لا يمكن تقييد نفوس الأجنبي فيها، ووصلت فيآخر تعميم صادر عن دائرة الهجرة إلى 1168 في عموم الولايات التركية.
يمكن للسوري التأكد من أن العنوان الذي يوّد الانتقال إليه “غير محظور”، عبر الرابط التالي: Yabancıların Adres Değişikliği ve Tescil Bildirimi (Boş Konuta)
فعند قيام الشخص بإضافة العنوان يخبره الموقع بأن العنوان متاح أو محظور.
في حديث لروزنة مع الناشط الحقوقي أحمد طالب الأشقر، يقول: “لجوء بعض السوريين إلى استئجار قسم منفصل من عقار، هو أمر شائع في نظام البيوت “الدوبلكس” لكنه حل غير مجدٍ قانوناً، فلا يمكن تثبيت السكن ضمن الجزء المستأجر، إلا إذا تم عزله بشكل رسمي بدائرة الطابو، ليأخذ عنواناً مستقلاً”.
وبالفعل لم تستطع علا تثبيت نفوسها بشكل منفصل عن شريكاتها في المنزل، واضطرت إلى “المغامرة” بتحمّل كامل التبعات القانونية والمادية المتعلقة بتوقيع عقد الإيجار على اسمها وحدها.
بصوت متعب تتابع علا : “أعلم أني قد أواجه وحيدةً نفقاتٍ ماليةً، إن لم تساهم شريكاتي في السكن بالدفع، شراكتنا شفهية، لكني مضطرة، فأنا بحاجة إلى تثبيت سكني في دائرة النفوس”.
العنوان الوهمي إجراء خطير
كثيرون هم السوريون/ات في تركيا ممن يسكنون مساكن شبابية مشتركة، ولكن لا إحصاءات رسمية حول أعدادهم، ولا يستطيع سكان هذه البيوت تثبيت عناوينهم في النفوس.
وهذا ما أوضحه الناشط الحقوقي أحمد طالب الأشقر بقوله:”المستأجرون/ات في السكن الشبابي لا يمكنهم تقييد سكنهم على نفس العنوان أبداً، حيث يُلزم كل مستأجر على وجه الخصوص بأن يكون له عنوانه الخاص بعقد إيجار مصدّق عند “النوتر”، وهذا لن يتم إلا بوجود صاحب العقار.
ويتابع: “كما يُشترط في بعض الولايات، تسجيل ساعة الغاز أو الماء على اسم المستأجر حصراً، ولا تُقبل ساعة الكهرباء كما يحدث في ولاية إسطنبول”.
هذه الشروط غير المتاحة أمام سكان المساكن المشتركة من السوريين/ات، دفعت البعض منهم إلى التورّط في تثبيت عناوين وهمية عند أصدقاء أو أقارب، أو عن طريق وساطات بعض السماسرة، مقابل مبالغ مالية، وهذا ما وقعت به رغد.
رغد، شابة سورية تقيم في سكن مشترك للنساء في منطقة فندق زادة بإسطنبول، تتحدث لروزنة، عن وضعها القانوني المربك قائلةً: “كيف لي أن أثبت عنواني ضمن السكن، الأمر مستحيل، حاولت حل الموضوع مع إحدى الصديقات وأضفت اسمي على عنوانها في النفوس كإجراء شكلي، لكن الأمر لم يمض بسلام، فقد تم وضع الكود v160 على اسمي”.
يحذّر الناشط الحقوقي الأشقر من التثبيت الوهمي للعناوين، واصفاً إياه بأنه من أكثر الأخطاء التي يرتكبها السوري الخاضع للحماية المؤقتة خطورة.
ويوضّح “تكمن خطورة العنوان الوهمي عند زيارة الشرطة للعنوان، والتأكد من عدم وجود الشخص فيه، هنا سيتم وضع كود عليه (كود العنوان الوهمي v160) وهذا الكود قد يعرضّ حامله للترحيل، فيما لم يتم تدارك الموضوع والسعي لتصحيح الأمر خلال الفترة الممنوحة من دائرة الهجرة”.
تتابع رغد حديثها لروزنة قائلة: “لدي إسوارة ذهبية هدية من والدتي -رحمها الله- سأبيعها لأتمكن من استئجار منزلٍ مؤقت لإنهاء معاملة تثبيت العنوان وإزالة الكود، أتمنى أن يتم ذلك سريعاً، كما تعلمين أنا بنت وما ناقصني الشرشحة والترحيل”.
يعاني السوريون/ات في جميع الولايات التركية من أوضاع اقتصادية متردية في ظل تدهور قيمة الليرة التركية، وارتفاع الأسعار بشكل عام وبشكل خاص بدلات الإيجار، التي وصلت في الآونة الأخيرة إلى مبالغ وصفها كثيرون بـ”الخيالية”، حيث يتراوح بدل الإيجار الشهري للمنازل النظامية في الأحياء المتوسطة بإسطنبول بين الـ 4 و 7 آلاف ليرة تركية، بحسب رصد قامت به روزنة.
واستئجار المنزل يرافقه نفقات إضافية منها تركيب عدادات الماء والكهرباء، ودفع “كمسيون” لصاحب المكتب العقاري، وقيمة التأمين لصاحب العقار، الذي جرت العادة في تركيا أن يكون بمقدار إيجار شهرين.
ترافق مع زيادة الأسعار، صعوبة الحصول على أذونات وتصريحات العمل اللازمة للمقيم الأجنبي، واضطرار الكثيرين إلى اللجوء للعمالة غير الشرعية بأجور متدنية، وبخاصة النساء.
وبلغ عدد السوريين في تركيا 3 مليون و652 ألف شخص، وفق آخر إحصائيات المديرية العامة لإدارة الهجرة التركية.
ضرائب وردية تطال السكن
صعوبة إيجاد سكن للاستئجار وتثبيته قانونياً في تركيا ليس العائق الوحيد أمام النساء.
مضايقات وأسئلة شخصية، وتحرش تعرّضت لها كل من رغد وعلا، وكثيرات من الباحثات عن غرف سكنية من السماسرة وأصحاب المكاتب العقارية.
هذا ووثقت معدة التقرير هذا النوع من المضايقات عند التواصل مع أحد الوسطاء العقاريين للسؤال عن غرفة للإيجار، إذ انهالت عليها أسئلة، معظمها شخصية تتضمن عبارات تحرش مبطنة على نحو:
“هل لديك علاقات خاصة؟ أين أهلك؟ هل سبق وتزوجتي؟ هذا السكن محترم لا مكان للتصرفات غير اللائقة، نحن مجتمع محافظ وبنات البيت كلهن محترمات.. أرسلي لي صورتك لأتعرف عليك، صوتك جميل”.
وأجرينا مقابلات مع عدد من الشبان الذين يسكنون في “سكن شبابي” عن تعرضهم لهذا النوع من الأسئلة الشخصية، جاءت معظم الإجابات بالنفي.
وأثناء البحث عن غرف سكنية للنساء في إسطنبول، لاحظنا وجود ارتفاع يتراوح بين 300 و 700 ليرة تركية عن سكن للرجال بمواصفات متشابهة، وضمن نفس المنطقة السكنية.
خلف أبواب السكن المشترك هموم وخفايا عميقة، ومشكلات يكتمها قاطنوها، ليس ابتداءً من الطعام والشراب ولا انتهاءً بالاعتداءات والسرقات..
وهنا نطرح هذا السؤال: إلى متى ستبقى حياة كثير من النساء مقيّدة ضمن أطر اجتماعية، تعيق تمتعها بأبسط الحقوق، كالمسكن الآمن المستقر؟!
كاتيا الداغستاني _ روزنة
تم إنتاج هذه المادة الصحفية بدعم من “JHR”صحفيون من أجل حقوق الإنسان”