يعرف أي متابع للمشهد السوري، جوانب كثيرة في الكارثة، وإن دقق النظر في عمق المشهد، فإنه لا شك، سوف يلاحظ جوانب أكثر للكارثة، ولعل الأبرز فيما يلاحظه ويراه المتابع، ثلاث نقاط هي الأكثر عمقاً، والأشد تأثيراً ليس على استمرار الكارثة، بل في سيرها نحو مزيد من تدهور الحالة وترديها.
أولى النقاط وأخطرها، هي استمرار المقتلة، وقد صارت ظاهرة مكرسة في أنحاء البلاد من مناطق سيطرة نظام الأسد إلى مناطق سيطرة مجلس سوريا الديمقراطية (مسد) في الشمال الشرقي وصولاً إلى منطقة السيطرة التركية في شمال غربي البلاد. وباستثناء المعارك والاشتباكات التي تحصل بين تلك المناطق بما فيها من قوى مسلحة أجنبية وقوات محلية، فإن ثمة صراعات واشتباكات تحصل داخل كل واحدة من مناطق سيطرة الأمر الواقع بين حاملي السلاح وبينهم قوات وعصابات تحترف الجريمة الجنائية، وثمة سياق آخر لعمليات القتل عبر تفجيرات واغتيالات، صارت في إطار ظاهرة مشتركة، وإن اختلفت في بعض التفاصيل، وهي في الإجمال تماثل ظاهرة مكرسة في المناطق الثلاث، وهي الموت داخل السجون والمعتقلات، التي يتم بعضها تحت التعذيب، والبعض الآخر لأسباب متعددة.
ولا يحتاج إلى تأكيد قول إن المقتلة تكاد تكون مقتصرة على المدنيين، ليس لأنهم أكثرية الموجودين فقط، بل أيضاً لأنهم الأقل حماية مقارنة بباقي المسلحين والمحميين في قواعد عسكرية، وبعضها تمثل قلاعاً محروسة بأعداد كبيرة من المقاتلين المدربين والأسلحة المتطورة والتقنيات العالية الدقة، التي تراوح ما بين قدرات الولايات المتحدة وروسيا وكل من إيران وتركيا وصولاً إلى جماعات مسلحة بينها قوات سوريا الديمقراطية وهيئة تحرير الشام والجيش الوطني وجيش الأسد، وتمثل القوى الأربع الأخيرة الحد الأدنى من القوى المسلحة في خريطة القوى المسلحة في سوريا، لكن حضورها في المقتلة، قد لا يكون الأقل حجماً من الطرفين الأعظمين والطرفين الإقليميين.
والنقطة الثانية الأكثر بروزاً، يمثلها الانهيار الاقتصادي والمعيشي لدى الأكثرية السورية، بعد أحد عشر عاماً من حروب دموية، كلفت كثيراً من الخسائر البشرية والمادية، وقدرت مؤسسات دولية إجمالي الأخيرة ما بين سبعمائة وثمانمائة مليار دولار، وقد أكدت مصادر أممية، أن تسعين في المائة من السوريين بلغوا مرتبة الفقر، وقد صار الدخل الشهري لكبار موظفي النظام، لا يغطي قيمة وجبة غداء لشخصين في بلد مجاور، والأسوأ في هذا الجانب أن الأمور تسير إلى تفاقم؛ حيث نسبة المفقرين إلى تزايد من خلال محدودية فرص العمل، وتواصل قيمة العملة المحلية انخفاضات جديدة، فيما يزداد صعوبة سير الأنشطة الإنتاجية والخدمية وانحسارها، بالتوازي مع تنامي الفساد والرشوة ونهب المال والممتلكات العامة.
ورغم وجود تمايزات بين سلطات الأمر الواقع سواء في تركيبها وتوجهاتها وفي قدراتها ومواردها المحلية أيضاً، فإن الظواهر تتكرر في حالات مماثلة في مناطق الداخل السوري الثلاث؛ حيث انهيار الواقع الاقتصادي والمعيشي، وكذلك حالة المضي نحو الأسوأ مع تزايد الفساد والرشوة، ونهب الموارد العامة، ولو بدرجات متفاوتة ولكنها متقاربة.
النقطة الثالثة، التي تكمل الأسوأ في المشهد السوري، مكرسة في واقع الانقسامات والصراعات، التي يعتمد جذرها على التعدد والتنوع السوري الذي يصبح في حالة السلام والاستقرار حالة إيجابية تجمل واقع السوريين، وتعطيهم قدرات وإمكانات أفضل للحياة وللتقدم، لكنه في ظل ظروف الصراع السوري وسلوكيات أطرافه والمتدخلين فيه، تحول إلى أداة سلبية زادت الواقع السوري ضعفاً، عبر إيقاظ الحذر والظنون في الهويات والانتماءات ما قبل الوطنية، ودفعها عبر الانخراط في مسار المظلوميات إلى عوامل مفتتة، تعزز انقسامات السوريين وصراعاتهم البينية في وقت كان من المفروض، أن يتشارك الجميع لخلق تقاربات وتعزيز مشتركات للتغلب على الظروف الاستثنائية، التي تحتاج إلى تكاتف الجميع، وضم الجهود إلى بعضها، إن لم تكن كلها فأغلبها.
لقد تعددت الاختلافات والصراعات، وأبرزها اليوم صراعات بين مناطق سيطرة قوى الأمر الواقع: مناطق سيطرة الأسد، ثم مناطق سيطرة «مسد»، والثالثة مناطق السيطرة التركية، والطبيعة العامة لهذا الصراع أنه سياسي عسكري مستند إلى التوجهات السياسية التي يتبناها كل واحد من قوى السيطرة، وما يدعمه من قوى مسلحة محلية وعسكرية أجنبية تسانده، بل إن ثمة صراعات داخلية في مناطق السيطرة الثلاث منها صراع كردي- كردي في مناطق «مسد»، وصراع بين الجماعات المسلحة وهيئة تحرير الشام في مناطق السيطرة التركية، وصراع أطراف متعددة في مناطق سيطرة الأسد.
وثمة شكل آخر من صراع متعدد المستويات، تمثله الصراعات العرقية- الإثنية على نحو ما يظهر صراع العرب والأكراد وصراع الأخيرين مع التركمان من جهة ومع الآثوريين السريان في جهة أخرى، وكلها صراعات تنامت بصورة كبيرة في السنوات الأخيرة، ونما بعضها مستنداً إلى قاعدة تنامي الأسلمة والتطييف، التي توجهت إليها غالبية التشكيلات المسلحة في مقاربة متنوعة المستويات لفكر جماعات التطرف الإسلامي من النصرة وتبدلات اسمها باعتبارها فرع «القاعدة» في سوريا إلى «داعش»، التي بزت سابقتها في التطرف بعد أن عجزت عن أخذ تفويض في تمثيل «القاعدة» في الصراع السوري.
وتمثل النقاط الثلاث الجزء الأهم والأكثر تأثيراً وعمومية في المشهد الراهن، وهذا بين عوامل تدفع إلى إيلائها أهمية خاصة ومعالجتها على نحو عاجل بعد ما صار إليه الوضع من انسدادات في المستويين الإقليمي والدولي، تدفع الملف السوري إلى الإدراج العميق، وهذا لا يؤدي إلى مواصلة السوريين دفع فواتير الصراع الداخلي فقط، بل دفع بعض من فواتير الصراعات الإقليمية والدولية، التي ينخرط فيها متدخلون في الملف السوري، كما في مثال الحرب الأوكرانية، كما أن وضع الملف السوري بعيداً عن المعالجة، يفاقم الأوضاع في جوانبها المختلفة، ويضاعف أخطارها على السوريين مهدداً وجودهم وكيانهم إلى أبعد الحدود.
ولا شك أن معالجة هذه النقاط تحتاج إلى خلق إطار توافقات سياسية عامة بين السوريين، يمكن التوصل إليها، أو التوجه نحو اشتقاقها من مضمون القرار الدولي 2254 الذي سبق، وأن عقدت مفاوضات جنيف على أساسه، واشتقت منه قصة السلال الأربع ومنها تجربة اللجنة الدستورية، لكن مع اختلاف واضح هذه المرة، بألا يسمح لنظام الأسد بالتهرب والمماطلة، وهو ما ينبغي أن يقوم به الروس الذين يمكن أن يشجع جهدهم في هذا السياق الأوروبيين والأميركيين للمضي عملياً في فتح مسار نحو حل سوري.
وللروس كما للسوريين مصلحة في خلق إطار توافقات سياسية عامة، لأنه لا يفتح باباً لخلاص روسي من وضع سوري معقد، لا بد من حله، ويصعب حله مع استمرار المساندة الروسية لنظام الأسد، ويجعل من الصعب على روسيا جني مكاسبها التي حصلت عليها في سوريا، بل حدوث ذلك سيعطي الروس فرصاً أفضل لمعالجة الملف الأوكراني مع الأوروبيين والأميركيين، لكن ذلك كله صعب، ما لم يتحرك السوريون ونخبتهم، التي تطلق في هذه الأيام جهوداً هدفها تحويل النقاشات إلى أفعال ومبادرات، وحينها يمكن أن تبدأ موجة جديدة من جهود، يتم بنتائجها تحريك الملف السوري الذي طال زمن وجوده في الأدراج المغلقة.
فايز سارة _ الشرق الأوسط