لطالما حظيت قضية تعليم أطفال اللاجئين السّوريين في المدارس الرسميّة اللبنانية، باهتمام المجتمع الدولي، والمنظمات الحقوقية والإنسانية، التّي تتهافت منذ بداية الأزمة السّورية على تقديم الدعم المادي والهبات، فضلاً عن الدراسة المستمرة للحلول التّي من شأنها إلحاق أكبر عدد من الطلاب اللاجئين في المدارس، وضمان حقهم في التعليم الأساسي.
لكنها بالتوازي شكلّت معضلة شائكة في الوسط السّياسي والاجتماعي اللبناني. هذه المعضلة التّي جعلت ملف تعليم اللاجئين السّوريين عرضة للتجاذبات والخلافات السّياسيّة المباشرة وغير المباشرة، بين الأحزاب المتناحرة والمتوالفة، والتّي حمّلت بمجملها اللاجئين مسؤولية الانهيار الحالي!
الدمج كشرط للدعم
ومؤخرًا تأججت هذه الخلافات، بعدما بات احتمال إيقاف العام الدراسي الرسمي وارداً، ذلك بسبب إضراب أساتذة التعليم الرسمي لحين تحقيق مطالبهم المعيشية، ناهيك عن بروز إشكالية “الدمج” بين الطلاب اللبنانيين واللاجئين كشرط أساسي طرحته الجهات المانحة لتقديم الدعم لقطاع التعليم الرسمي المنهار.
وهذه الإشكالية التّي أثارت بلبلة واسعة في الوسط التربوي والسّياسيّ، وذلك بعد بروزها علانيةً في لقاء وزير التربية والتعليم العالي في حكومة تصريف الأعمال، عباس حلبي، بالجهات المانحة في السّادس من أيلول الجاري، والذي أكدّ فيه حلبي على حاجة لبنان الملّحة للدعم من أجل إنقاذ العام الدراسي، وصرّح أن لبنان لن يقترض لكي يعلم غير اللبنانيين، في إشارة لعدم إمكانية الأساتذة الرسميين على تعليم اللبنانيين ناهيك عن اللاجئين السّوريين.
أزمة تربوية
ينبثق اليوم احتمال ضياع عام دراسي رابع على طلاب التعليم الرسمي، ذلك كنتيجة للسّيناريوهات التّي قد تحدث، إذا لم تفضِ نقاشات جلسات الموازنة العامة في مجلس النواب التّي بدأت يوم الأربعاء، لتحقيق مطالب روابط المعلمين التّي عرضتها على الكتل النيابية، وأبرزها تعديل راتب الأساتذة ثلاثة أضعاف، وتقديم المساعدات الاجتماعية وبدلات النقل، كي تسد عجزهم بالتوازي مع غلاء المعيشة، وانفلات دولار السّوق السّوداء وما أعقبه من تضخم مستفحل.
وما أن طُرح “الدمج” حتّى ثار الأساتذة ثائرتهم، وأعربوا عن رفضهم القاطع لهذا الأمر، بحجة أن من شأنه زيادة الأعباء والضغوط على كواهل الأساتذة، فضلاُ عن كونه يُفقد خصوصية التعليم وهويته الوطنية للطلاب اللبنانيين، ومقدمة علانية لمشروع توطين وتجنيس اللاجئين السّوريين وانتفاء أي إمكانية لعودتهم.
هذا فيما راجت أقاويل مفادها أن الأمم المتحدة أكدّت عبر ممثليها الامتناع عن تقديم المساعدات للدولة اللبنانية، وتمويل الحوافز المالية للمعلمين ووزارة الشؤون الاجتماعية والجمعيات الأهلية، وإلغاء كل النشاطات الاممية إذا لم تقارب الحكومة الملف بطريقة مختلفة.
فالأمم المتحدة والدول الاوروبية مصرّة على دمج النازحين السوريين في المجتمع اللبناني، وإلغاء كل الإجراءات العنصرية بحقهم، وإلغاء الدوام المستقل للطلاب السوريين بعد الظهر وفصلهم عن اللبنانيين، وإلا فإن منظمات الأمم المتحدة مضطرة لإلغاء إجراءات الدعم. وهذا ما رفضته وزارة التربية، وأكدت الالتزام بدوام بعد الظهر للطلاب السوريين، ورفض دمجهم مع الطلاب اللبنانيين.
هكذا تظهر مشكلة حقيقية بين وزارة التربية والمنظمات الداعمة، تهدد بعرقلة انطلاقة العام الدراسي الذي تم تأجيله بداية إلى 15 ايلول ولم ينطلق بعد.بعد اتصال ” المدن” بعدد من المعنيين في وزارة التربية والتعليم العالي، ومن بينهم الوزير، كان الجواب الموحد هو التزام الوزارة بالصمت الإعلامي، لحين رجوع الوزير من سفره إلى أميركا، والذي لم يُعين أي من المستشارين أو المسؤولين في وزارته لمناقشة هذا الملف في غيابه، وكذلك وزارة الشؤون الاجتماعية رفضت عبر ممثليها التصريح إعلاميًا بما يتعلق بهذا الملف في الوقت الحالي.
رابطة الأساتذة
يشرح رئيس رابطة التعليم الأساسي في لبنان حسين جواد، في حديثه مع “المدن”، “أن الرابطة رفضت رفضًا قاطعًا أي حديث عن دمج اللاجئين السّوريين بالطلاب اللبنانيين، فالحديث وحده والذي يُعد “بالون اختبار” قد أثر سلبًا على المدارس الرسميّة.
إذ أن عدداً كبيراً من الأهالي قاموا بسحب إفادات أولادهم من المدارس. وهذا أدى لخسارة عدد أكبر من التلامذة اللبنانيين لصالح السّوريين منهم، والذين يشكلون ما يتجاوز نصف التلامذة اللبنانيين المسجلين في المدارس الرسميّة. ونحن الأساتذة مضربون اليوم للحصول على مطالبنا، ولسنا بوارد تعليم أي من الأجانب على حساب الطلاب اللبنانيين الذين بالكاد نستطيع تعليمهم”.
وأضاف “قد تمنينا على الوزير الحلبي الدفاع عن خصوصية تعليم الطلاب اللبنانيين، أما السّوريون فأهلاً بهم في الدوام المسائي. وليس الأمر من باب العنصرية بل من باب الخصوصية. ونحن إذ نخشى عملية الدمج، فبسبب التخوف من سحب الجهات المانحة يدها من دعم المدارس، وإلقاء عبء اللاجئين على الدولة اللبنانية”.
ملايين الدولارات
يُذكر أن وزارة التربية والتعليم العالي قد صرحت سابقًا عن وجود ما يقارب 156 ألف طالب غير لبناني مسجلين في حوالى 350 مدرسة رسمية في الدوام المسائي، بينما أعداد اللبنانيين المسجلين تبلغ حوالى 280 ألف طالب، غير أن عدداً من الجمعيات والمنظمات -فضلاً عن الجهات الإعلامية- دحضت هذه الأعداد واعتبرتها مبالغة روجت لها السّلطة اللبنانية، للاستفادة قدر الإمكان من “حنفية” الدعم المالي الدولي.
إذ وحسب تقرير نشرته منظمة “هيومن رايتس واتش” السّنة الماضية، أشارت إلى أن المانحين الدوليين يدفعون للبنان مبلغاً محدداً لكل طفل سوري لاجئ مسجل في المدرسة. كما يدفعون رسوماً مدرسية للأطفال اللبنانيين، بتكلفة تزيد عن 440 مليون دولار، وذلك بين الفترة الممتدة من عام 2015 حتى 2019. إضافة إلى ذلك، وفّرت اليونسيف الوقود للكهرباء والتدفئة خلال العام الدراسي المنصرم لعدد ضخم من المدارس الحكومية وخصوصاً القريبة من الحدود السّورية بين بعلبك- الهرمل وعكار. وبدأت بتقديم الكتب المدرسية والقرطاسية والمجموعات الخاصة بالنظافة الشخصية، كما أدت مصادر “المدن” في المنظمة.
كما وبلغت ميزانية الإنقاذ من أجل تمويل قطاع التعليم العام للعام الماضي (ضمن خطة لبنان للإستجابة للأزمة) ما يتجاوز 400 مليون دولار أميركي التّي عملت على تمويل وتنفيذ خطط المنظمات المعنية بتعليم اللاجئين، كالمفوضية العليا لشؤون اللاجئين السوريين في لبنان، واليونيسف ووزارة التربية والتعليم العالي اللبنانية. وتعمل هذه المنظمات إلى جانب حوالى 55 منظمة أخرى ممولة، لضمان حق التعليم للاجئين بأقلّ أعباء على الحكومة اللبنانية.
معضلة الدمج والتناحر السياسي
لا تنفك قضية إعادة اللاجئين السّوريين إلى ” المناطق الآمنة والمحررة” في سوريا تؤرق الرأي العام الدولي فضلاً عن المحلي، وآخرها الخلافات التّي حصلت داخل حكومة ميقاتي لتصريف الأعمال، الذي بحدّ قول وزير المهجرين عصام شرف الدين، يتملص من مسؤولياته الحكومية لمصالحه مع الدول الأوروبية والجهات المانحة، من خلال عرقلة المساعي الوزارية لإعادة اللاجئين للأراضي السّورية.
وبُعيد هذه النقاشات المحتدمة، أعربت المنظمات الدولية المشرفة على أوضاع السوريين في لبنان عن قلقها ورفضها للمقاربة اللبنانية لهذا الملف، ورفض عودة أي لاجئ سوري إلى بلاده، قبل الاستقرار الشامل فوق الاراضي السورية.
أما شرط الدمج فقد أجج هذا السجال لينفلت كصراع سياسي/ طائفي خصوصاً في ظلّ رفض غالبية الطوائف المسيحية دمج أطفالها مع اللاجئين السّوريين وفي مناطقهم، وتحول الموضوع إلى شبه نقمة لبنانية على اللاجئين الذين يتلقون الدعم والمساعدات، فيما يلبث اللبنانيين في هوة الانهيار الكالحة، وتظهر يوميًا حوادث عنصرية بحق اللاجئين بحجة أنهم السبب الأساسي بالأزمات المستجدة وبالانهيار الاقتصادي، وفق ما يروج له القادة السياسيون.
غير أن الانهيار بصورته الحالية لا يمكن تبريره فقط بواقع وجود حوالى مليون ونصف مليون لاجئ، بل إنه نتيجة هدر وفساد السّلطات اللبنانية وتقاعسها الممنهج، فالدولة التي لم تحمل نفسها عبء توقيع أي من الاتفاقيات المتعلقة باللجوء، وأبقت اللاجئين السّوريين في أراضيها تحت مسمى “نازحين” لتتنصل من مسؤولياتها تجاههم، واستفادت لسنوات من هذه “الحنفية المالية” الدولية، ووضعت اللاجئ السّوري في مواجهة عنصرية بعض اللبنانيين ونقمتهم، ولم تعمل على حمايته أو حتّى طرح خطط تنظيمية في فترة بقائه على الأراضي اللبنانية، كما وأنها جعلته شماعة لكل المصائب التّي حلّت على الشعب اللبناني المنكوب، متلافيةً فتح ملف تدخل أحزابها في الصراع السّوري.
واليوم وعند أول مفترق وجدت فيه السّلطات اللبنانية نفسها بمعرض المساءلة، رمت ورقة اللاجئين وشدت العصب الطائفي والسّياسيّ لتتنصل من مسؤولياتها تجاه الهدر الذي لاحظته الجهات المانحة.
أما على الصعيد التربوي، فخصوصية تعليم اللاجئين السوريين بما يتوافق مع مناهجهم الخاصة، مطلب إنساني وحقوقي ملّح، كما هو أحقيتهم بالتعليم الأساسي، فضلاً عن كون التعليم هو الحائل الوحيد دون تحول هذا الجيل اللاجئ لجيل متسرب دراسيًا وعاطل عن العمل، أما إعادتهم للمناطق “الآمنة” فهي مجزرة جديدة ترتكبها السّلطات اللبنانية بحق شعب قاسى ما قاساه بحربه.
بتول يزبك _ المدن