يكاد المشهدُ يكون مكرراً؛ ففي كل مرة يقصف أحد الطرفين مواقع الآخر ويتم الرد من الطرف الآخر لتتحول الردود إلى فعل ورد فعل سرعان ما تتوقف.
جغرافياً تعتبر منطقة شرق سوريا- ديرالزور، من أكثر المناطق الجغرافية التي تشهد اقتراب القوات الأمريكية وقوات التحالف الدولي من مواقع المليشيات الإيرانية وقوات الحرس الثوري الإيراني.
إذ تسيطر الولايات المتحدة على مناطق شرق الفرات والمسماة محلياً الجزيرة، وهي مناطق سيطرة قوات قسد حيث توجد القواعد الرئيسية للتحالف الدولي في حقلي كونيكو والعمر، وهي التي تتعرض للقصف من قبل المليشيات الإيرانية، فيما تسيطر إيران على مناطق الشامية، جنوب وغرب نهر الفرات وتسيطر على المدن الرئيسية فيها؛ ديرالزور، الميادين، البوكمال، وتتواجد قواتها وقواعدها فيها ابتداءً من نهر الفرات وصولاً للبادية السورية.
تعتبر مدينة البوكمال، وهي البوابة السورية على الحدود العراقية، ذات أهمية استراتيجية للقوات الإيرانية، لذلك عملت على تشديد السيطرة عليها في محاولة لبناء قواعد إيرانية ثابتة تكون منطلقاً للمليشيات الإيرانية في الجغرافيا السورية.
لذلك تعمل الولايات المتحدة الأمريكية على الإبقاء على حالة عدم الاستقرار لدى المليشيات وذلك من خلال استهداف المواقع الإيرانية.
على الجهة المقابلة من قاعدة حقل العمر وفي عمق البادية السورية، تقع قاعدة التنف على الحدود الأردنية السورية، وهي قاعدة أمريكية فيها فصائل للمعارضة السورية، فصيل جيش مغاوير الثورة، وهي تقوم برصد تحركات المليشيات الإيرانية في البادية السورية والممرات التي تستخدمها من أجل نقل النفط والأسلحة والمواد اللوجستية.
هذا القرب الجغرافي لمواقع القوات جعل من إمكانية الاحتكاك كبيرة، خاصة مع توفر الظروف المهيئة لمثل هكذا احتكاكات، حيث تحولت الجغرافيا السورية لأحد مناطق التفاوض على الأرض ملحقة بالملف النووي الإيراني.
ففي منتصف آب أغسطس الجاري، استهدف طيران مسير يتبع للمليشيات الإيرانية قاعدة التنف بعدة هجمات لم تنتج عنها إصابات بشرية في صفوف المدافعين عن القاعدة، كما تم إسقاط طائرة درون بدون طيار، وقالت القيادة الوسطى الأمريكية في تصريح لقائد قوة “المهام المشتركة” في التحالف، اللواء جون برينان إنه تم إسقاط طائرة بدون طيار، فيما وصفه بالعمل العدائي.
الرد الأمريكي تأخر قليلاً والذي اعتمد فيما يبدو على معلومات استخباراتية حول أماكن إطلاق المسيرات والتي تتركز في مناطق غرب العراق وشرق سوريا.
ففي فجر الأربعاء ٢٤ آب أعلنت القيادة الوسطى في الجيش الأميركي، في بيان لها عن تنفيذ غارات استهدفت منشآت لمجموعات تتبع للحرس الثوري الإيراني في شرق سوريا.
وقال بيان المتحدث باسم القيادة الوسطى للجيش الأميركي، الكولونيل جو بوتشين، إن القوات الأميركية نفذت اليوم غارات وصفها بالدقيقة على منشآت وبنى تحتية تستخدمها جماعات مرتبطة بالحرس الثوري الإيراني في ديرالزور شرق سوريا.
حيث استهدف طيران التحالف الدولي مخازن عياش غرب مدينة ديرالزور بعدة صواريخ أدت لدمار كبير في الموقع، وكانت القيادة الوسطى الأمريكية قد أصدرت بياناً أكدت فيه استهداف الموقع المذكور، فيما كشف مسؤول رفيع بوزارة الدفاع الأميركية لـ “سكاي نيوز عربية” أن الضربة التي سمح بها الرئيس جو بايدن ضد مجموعات تعمل تحت قيادة الحرس الثوري الإيراني داخل سوريا، استهدفت منشآت ومستودعات تحتوي على صواريخ طويلة المدى ومسيرات مفخخة من المفترض أن يستخدمها حزب الله ضد مصالح إسرائيلية.
الرد الايراني لم يتأخر كثيراً، حيث استهدفت المليشيات الإيرانية محيط قاعدتي كونيكو والتنف، بست قذائف مدفعية تسببت بإصابات بسيطة في صفوف القوات الأمريكية، والتي عادت وردت بعد لحظات باستهداف مواقع إيرانية في حويجة صكر وعلى امتداد مناطق السيطرة الإيرانية شرق ديرالزور مروراً بالميادين وصولاً لمدينة البوكمال.
ليست المرة الأولى التي يتبادل بها الطرفان القصف دون الوصول لتصعيد شامل في مناطق السيطرة، حيث تتداخل تلك المناطق في قرى شرق ديرالزور، إذ تسيطر المليشيات الإيرانية على سبع قرى في منطقة الجزيرة- شرق نهر الفرات، وهي بذلك تتداخل مع سيطرة قسد والتحالف.
في المحصلة، لاتعتبر هذه الاستهدافات المتكررة أعمالاً حربية بمعنى الحرب المفتوحة، إذ يتجنب كلا الطرفين إلحاق خسائر بالأرواح، ما يعني أن هذا التصعيد العسكري يخدم أهدافاً سياسية، ولا يعدو كونه رسائل تلقى في صندوق البريد أو أوراقاً إضافية توضع على طاولة المفاوضين في فيينا.
وبالتالي فإن احتمالات الوصول لصراع مفتوح في ظل استمرار المفاوضات والوساطة الأوربية يعد أمراً مستبعداً ويخضع لرغبة المفاوض والرسائل التي يريد إيصالها، فالأمريكان يقولون من خلالها إنه لا استقرار للإيرانيين دون التوصل لاتفاق نووي شامل، وهنا تكمن الخشية من اعتبار سوريا هدية أمريكية لإيران في حال نجاح المفاوضات وتقديم إيران تنازلات مهمة في ملفها النووي.
كذلك تقدم إيران تنازلاتها في سوريا لمصلحة تهدئة مخاوف إسرائيل والتي استهدفت هي الأخرى مواقع إيرانية في محيط مدينة مصياف على الساحل السوري.
ربط الملف السوري وجعله ملحقاً بالملف الإيراني، يلقي بمخاوف كبيرة بأن يقدّم كِلا الطرفين تنازلات على حساب السوريين ودمائهم، وبالتالي يكون الشعب السوري هو الخاسر الأكبر في صراعٍ لا يد له فيه.
فراس علاوي _ الطريق ميديا