لا أستطيع أن أخفي غيرتي من الأوكرانيين من جهة وغضبي في ذات الوقت، حين رأيت الرئيس بايدن يتبوأ منصة البيت الأبيض ليعلن حربا بكل معنى الكلمة ضد روسيا، (باستثناء الانخراط المباشر للعسكريين الأمريكيين على الأرض الأوكرانية)، وذلك باسم الحرية والديمقراطية والقانون الدولي الخ. وكأنه مندهش لما يفعله بوتين.
وحتى لو قبلنا المنطق البرغماتي الذي يكرره الاستراتيجيون، بأن المبادئ تكتسب قيمتها فقط عندما تتطابق مع المصالح، فإن السلوك الأمريكي تجاه سوريا، بصفته الديمقراطية آو الجمهورية، يبقى قاصرا عن المصلحة الأمريكية ذاتها، لتتصرف الدبلوماسية الأمريكية مثل قاض يهرب من ذاكرة جريمة شنعاء كان شاهدا عليها، وبقي صامتا، بل عمل على سترها بأذياله، واهما أنه يستطيع أن ينفض يده منها.
حتى بعد العدوان على أوكرانيا، يستمر هذا الموقف الأمريكي من ذاكرة وواقع المأساة السورية، لتبدو مثل كابوسا يقرع باب البيت الأبيض كل يوم، ولتستمر محاولات طرده و يوميا بكل الأشكال الممكنة.
الحقيقة أنني لا أعرف أية وسادة يدفن فيها الرئيس بايدن رأسه كي لا يسمع قرعها. ولعل بعض البيروقراطيين الطامحين يرفعون صوت ضجيج الطبول الداخلية للصراع في البيت الأبيض، كي لا يمكن للرئيس أن يسمع، حتى لو شاء ذلك. فثمة ألف مبرر كي لا يفعل بايدن شيء تجاه ٍسوريا. لكن يلزمك مبرر واحد وجريء واع كي تنجز عمل مسؤول تجاهها.
نعرف أن واشنطن تبلدت تماما أمام بكائيات السوريين وآلامهم، بل لم تعد ترغب أن تسمع الحجج القائلة بأنه كان يمكن إيقاف شيطان بوتين وهو لا يزال بعد في قمقم، عام 2016، فهذا سيستدعي مسائلات كثيرة قد لا تسمح بها التحالفات السياسية. لكن السوريين سيستمرون في قرع الباب ولن يخشوا الإشارة بوضوح لمن تواطأ مع بوتين وبشار.
نعم، ليس هذا السلوك غريبا على الذهنية الغربية. ورغم أنني لا أقارن مأساة سوريا بالهولوكوست، يكفيني أن أذكر كيف تواطأت قوى الفاشية الصاعدة للأحزاب والقوى في الغرب داخل الحكومات من أجل إدارة الظهر لمأساة اليهود في مواجهة الوحشية النازية في كل اصقاع أوروبا، حتى صار من غير الممكن قبر الفاجعة الكبرى للهولوكوست، لتصير عندها مادة للسياسة.
ينقل بعض من أكثر السوريين الأمريكيين المرموقين وبعضا من أكثرهم صدقية، تجربتهم مع العديد من المسؤولين الأمريكيين في محاولتهم للحصول علي دعم الإدارات الأمريكية لإغلاق أبوب الجحيم في المأساة السورية. في آخر المطاف، كان جواب المسؤولين الأمريكيين كل مرة: اذهبوا إلى الروس، ثم اذهبوا إلى الروس، ثم اذهبوا إلى الروس. وأعتقد أني لا أفشي سرا إن قلت أان تجربتي كانت مماثلة تماما لتجربة هؤلاء السوريين. فلقد سمعت ذات الجواب من ذات الأشخاص ومن غيرهم، عدة مرات.
بل كانت لي تجارب مشابهة مع الأوروبيين، حيث انتفض أحد كبار الدبلوماسيين عام 2016 وكان من اكبر أنصار استرضاء بوتين بأي ثمن في إطار “السياسات الشرقية Oeste Politisch”، وبعد إصراري على بعض المبادئ المعلنة التي تتبناها أوروبا للحل في سوريا، قال لي: “من تظنون أنفسكم؟ إنكم لستم مركز العالم”. وذلك في محاولة منه لتأكيد ضرورة المساهمة في عملية سوتشي. ولعله صار يعرف الآن أن سوريا ليست مركز العالم، ولكن روسيا وليس ألمانيا هي التي تحارب كي تصبح مركز أوروبا والعالم، وبوتين وليس ميركيل ولا شولتس يحاول ان يصبح مهيمنا عليها.
يسود السوريون شعور بالأخوة والتضامن مع الشعب الأوكراني حين يسمعون الأخبار. بالنسبة لهم هذه فاجعة مريرة مروا بها وشاهدوها مثل فيلم بطيئ Deja Vue.
القصص المروعة للأشخاص الفارين من ماريوبول، ومجاعة الأطفال والحرمان من الكهرباء والماء، مناظر الدبابات الروسية تجوب شوارع والطائرات تقصف المدن والمشافي، هذا كله Deja vue ومناظر مألوفة بشكل مخيف.
وطالما قارن العديد من الجماعات الحقوقية والمسؤولين والمراقبين بسهولة التكتيكات الوحشية لروسيا لتحويل دفة الحرب الأهلية السورية لصالح بشار الأسد. حيث يقول دانيال بالسون، مدير برنامج في منظمة العفو الدولية: “لقد ذهلنا حقا من مقدار أوجه التشابه”. لكن لم يكن ثمة من يصغي.
إضافة لذلك تستخدم روسيا في أوكرانيا الأسلحة والاستراتيجيات التي يتم شحذها على المدن السورية لتحقيق أكبر تأثير قاتل على المدنيين والشعب. وإذ يحذر مسؤولون أوكرانيون من أن ماريوبول “أصبحت حلب الثانية”، لتصبح دمشق المحتلة رمزا لاستعداد القوات الروسية والنظامية السورية لاستخدام أكثر التكتيكات والأسلحة وحشية ضد المدنيين.
عام 2016، خلال حصار دام نحو ستة أشهر للأجزاء التي تسيطر عليها المعارضة في حلب، هاجمت القوات الروسية وقوات النظام بالبراميل الحارقة، المصانع ومحطات المياه وقطعت خطوط الإمداد، تاركة 250 ألف من السكان يعانون من نقص حاد في الغذاء والأدوية والوقود، وأعقب ذلك كارثة إنسانية.
ومن هذا المنطق فإن “الكثير من الضحايا المدنيين الذين نوثقهم في أوكرانيا ناجمون عن قنابل غبية عن قصد. وهذا ليس جديدا! فلقد تعمدت روسيا والنظام السوري قصف المناطق المدنية بالبراميل “الغبية”، بما في ذلك المرافق الطبية، واستخدمتا أسلحة عشوائية مثل الذخائر العنقودية والقنابل الحارقة عن قصد بهدف إرهاب السكان وكسرهم معنويا وتطفيشهم.
لذلك تثير دهشة بعض المراقبين الغربيين من استعداد روسيا لمهاجمة المدن الأوكرانية شعورا بالإحباط والمرارة لدى العديد من السوريين. “إنهم يريدون إفراغ تلك المدن من سكانها، لذلك سيكون من الأقل تكلفة بالنسبة لروسيا أن تتولى زمام الأمور”. هكذا يتحدث الخبراء الدوليون بدهشة عن سلوك بوتين في أوكرانيا.
فهل سمعتم يا سادتي عن بلد اسمه سوريا؟ لقد سبق أن أجبرت الحرب في سوريا 6.6 مليون سوري على الفرار من البلاد، وفقا للأمم المتحدة، مع توجه أعداد كبيرة إلى أوروبا بعد تدخل روسيا في سبتمبر 2015.
وفي حين تتزايد الخسائر الروسية في أوكرانيا وتتعثر هجماتها البرية، يواصل بوتين التحول نحو “خوض نوع الحرب منخفضة الكلفة مثل يخوضها في سوريا”. فهل يتفاجأ الخبراء أيضاً؟
وبعد، تؤكد لقاءات أخيرة مع عدد من الدبلوماسيين الأمريكيين أن الولايات المتحدة لا تزال تدور في ذات الحلقة المفرغة. ولا تزال الإدارة توظف أقل ما يمكن من الجهد الشكلي تجاه الأزمة السورية. بل إنها حين تنشط تضيع جهودها في تسديد الأمور الهامشية فيما يمكن يدفع للشك بكسل مستعص وشكلية مقصودة.
على سبيل المثال، لا يوجد في القانون الدولي ما يلزم الصليب الأحمر على تمرير المساعدات الإنسانية عبر ممرات النظام السوري ليستفيد منها وليوزعها كل من النظام السوري وروسيا. فهذا النظام استخدم ويستخدم التجويع والحصار كسلاح ضد شعبه، ويستخدم المساعدات سلاحا لإركاع شعبه. هذا في حين تعلم واشنطن أن تركيز الاهتمام العالمي على إنشاء ممرات إنسانية، تنجزها عبر صفقات مع روسيا وتبتعد بالتالي عن الجهود الحيوية لتطبيق القرارات الدولية وإنشاء المناطق الآمنة للمواطنين السوريين الذين لا يزالون يقتلون كل يوم، فإنها تعلم أن ذلك أصبح نهجاً يمارسه الدبلوماسيون في واشنطن إلى حد الإدمان.
تطرح الأزمة السورية مفارقة كبيرة أمام كل الحجج التي تؤسس الولايات المتحدة عليها تدخلها في الحرب الأوكرانية، حتى من وجهة نظر القانون الدولي. فازدواجية المعايير وتشجيع بوتين على منطق الصفقات الدبلوماسية في سوريا، هو سلوك مزمن يلحق أكبر الضرر ليس فقط بسمعة الولايات المتحدة، بل وبمصداقية سياساتها وقدرتها علي توليد تحالفات ذات مغزى ضد خصومها وعلى رأسهم روسيا – بوتين.
وفي حين توظف الولايات المتحدة المليارات لشراء وتعزيز التحالفات الجديدة ضد معسكر الاستبداد الكوني، تبقى سياساتها تجاه سورية ثغرة كبيرة في استراتيجيتها الكبيرة ذاتها.
باستثناء البيانات والنوايا الحسنة العامة، وباعتراف العديد من الدبلوماسيين، لا تملك إدارة بايدن إلى الآن أية خطة تنفيذية معلنة عن سوريا. وأمام هذه العطالة تصطدم هذه المبادئ المعلنة لوزارة الخارجية الأمريكية بالذات بأجندات قوى إقليمية وازنة على الأرض.
وتعرف الخارجية الأمريكية أنها عند لحظة معينة ستواجه هذه القوى وهي تحاصر الأهداف الاستراتيجية الأمريكية، دبلوماسيا وسياسياً، بل وعسكريا.
عندها لن يسعني إلا أن أتصور أفغانستان ثانية، ينسحب منها الأمريكيون ويكون السوريون وقودها من جديد.
فهل تقترح الإدارة الأمريكية أن يذهب السوريون إلى جحيم روسيا – بوتين من جديد؟ لعلهم لا يصرحون، لكن السؤال يحرجهم. وحتى لو نصحت الولايات المتحدة السوريين بالذهاب مجدداً إلى الجحيم الروسي، فإن واشنطن لن تتمكن من الخروج من كابوسها السوري والشرق أوسطي ولا من قصورها فيهما.
إنه وهم مكلف وخاسر. وليس من المفهوم أن يكون للولايات المتحدة مصلحة أن تبقي لهيب الثقب الأسود السوري مشتعلا، ولا أن يكون بإمكانها أن تستمر في الشرق الأوسط من دون سياسة عملية، ومبادرة حثيثة تجاه سوريا.
يبدو أن عطلة شهر آب أغسطس تسمح بخلوة للتفكير، لعلها تكون مفيدة!
سمير التقي _ الناس نيوز