علمتني خبرة سنين طويلة من التعامل مع قضايا النساء في المنطقة؛ تصميما للحوار بين الفرقاء المتشاكسين، وإدارة لإنتاج المعرفة، وصياغة للوثائق حول حقوق المرأة وقضايا الأسرة، بالإضافة إلى تأسيس الشبكات الإقليمية، علمتني هذه الجهود 4 دروس مهمة:
- الأول: أن البعد الديني الثقافي القيمي مهم؛ لكن جرى اختراقه بالمحافظة الاجتماعية فأعادت إنتاج الدين على مقاسها ومن جنسها.
- الثاني: أن البعد الديني الثقافي مهم؛ لكن مدخل التغيير الحقيقي هو تكامله مع الأبعاد التنموية؛ بمعنى أن “غيروا ما في الواقع يتغير ما في النفوس”، وهنا ملاحظة جديرة بالاعتبار؛ أنه رغم تصاعد قضايا الجدل الإسلامي العلماني واشتداده وامتداده زمنيا منذ ثمانينيات القرن الماضي في هذا الأمر إلا أن تأثيره على تحسين واقع النساء محدود.
- الثالث: أهمية الاتساق الذاتي؛ فمعظم المؤسسات -دينية وغير دينية- والأحزاب -إسلامية وعلمانية- ومنظمات المجتمع المدني -نسوية وغير نسوية- تحدثك عن حقوق المرأة في الإسلام والمواثيق الدولية، وأفرادها وتكويناتها الداخلية على غير ذلك.
- الرابع: حملت انتفاضات الربيع العربي وموجاته المتعاقبة تصورا مختلفا لقضايا النساء في المنطقة من زوايا عدة؛ فالحضور النسائي الطاغي الذي تقدمت به المرأة العربية الصفوف تجاوز ثنائية الذكر والأنثى التي حكمت جل تصورات التيارات الفكرية والسياسية لقضايا النساء، وقامت النساء بدمج قضاياهن -على أرضية المواطنة لا الثنائية التقليدية- في المطالب العامة للمتظاهرين التي تمحورت حول الحرية والعدالة.
رغم أنه بات يُنظر الآن إلى المساواة بين الجنسين والديمقراطية على أنهما مرتبطان ارتباطا وثيقا، وتم وصفهما على أنهما “معايير مجمعة” فإنه يلاحظ بالنسبة لأنظمة الحكم العربية؛ أن المجتمع الدولي قام بالتمييز بين نوعي الحقوق هذين حين رأى في إصلاحات قيادات الأنظمة العربية نوعا من التحديث رغم ما اتسموا به من انتهاكات جسيمة في قضايا حقوق الإنسان التي لم ينج منها الناشطات النسويات
أما الدرس الجديد الذي أحاول أن استكشفه الآن فهو العلاقة بين الرطانات التي تتشدق بها الأنظمة العربية في الحديث المتنامي عن حقوق المرأة، وبين تصاعد الاستبداد؛ خاصة في ظل انكسار موجات الربيع العربي وبروز الثورة المضادة. كقاعدة عامة: إن أية إصلاحات تخص المرأة، أو مزاعم يقوم بها النظام السياسي في هذا الصعيد هي لخدمة أجندته السياسية، ويصبح السؤال ما الذي يمكن أن تقدمه حقوق النساء للنظم غير الديمقراطية؟ أو بعبارة أخرى؛ كيف يستغل المستبدون في المنطقة حقوق المرأة ليؤكدوا استبدادهم؟
هنا تقدم لنا الدراسات التي تناولت الموضوع مفهوم “غسل السمعة الجنساني للاستبداد”، وتكمن الفكرة وراءه في أن قضايا النوع الاجتماعي تساعد النظم التسلطية على الظهور بشكل تقدمي وليبرالي وديمقراطي؛ في حين يصرف الانتباه عن ممارساته الاستبدادية المستمرة، كما تعد إصلاحات المساواة بين الجنسين في بلدان المنطقة جزءا من إستراتيجية أوسع لجذب الانتباه بعيدا عن ممارسات حكومتها غير الديمقراطية. ومثلما تعلم الحكام العرب استغلال الانتخابات متعددة الأحزاب أو التنافسية من أجل الإشارة إلى وجود ديمقراطية غير موجودة بالفعل، كذلك فعل هؤلاء بالمساواة بين الجنسين بطريقة مماثلة أيضا؛ فمن خلال إعلان التزامه بالكوتا النسائية (أي تخصيص نسبة من المقاعد المنتخبة للنساء) -على سبيل المثال- يمكن للنظام السلطوي أن يطرح التزاما بالقيمة الديمقراطية للشمول -شموله للجميع- مع تجنب الضغوط التي يمكن أن تسمح لهذا البرلمان بانتخابه بحرية ونزاهة؛ ناهيك عن أن يقوم بدوره الرقابي والتشريعي لصالح المواطنين.
رغم أنه بات يُنظر الآن -على المستوى الدولي- إلى المساواة بين الجنسين والديمقراطية -على نطاق واسع- على أنهما مرتبطان ارتباطًا وثيقًا،وتم وصفهما على أنهما “معايير مجمعة” يجب تناسقها معا ولا يمكن فصلها؛ فإنه يلاحظ بالنسبة لأنظمة الحكم العربية أن المجتمع الدولي قام بالتمييز بين نوعي الحقوق هذين حين رأى في إصلاحات قيادات الأنظمة العربية نوعا من التحديث رغم ما اتسموا به من انتهاكات جسيمة في قضايا حقوق الإنسان التي لم ينج منها الناشطات النسويات.
اختطاف قضايا النساء
هناك 3 طرق يستخدم فيها المستبدون المساواة بين الجنسين لمصادرة الديمقراطية وإدامة الاستبداد: أولها أن الأنظمة الأوتوقراطية ترى في إصلاحات المساواة بين الجنسين وسيلة للحفاظ على الهيمنة على المعارضة السياسية. ثانيًا، تلجأ الأنظمة أيضًا إلى مثل هذه الإصلاحات من أجل الحصول على مكانة دولية، وهو أمر جيد عندما يكون الحكام حريصين على التهرب من الضغوط الخارجية من أجل الديمقراطية. ثالثًا وأخيرًا، يسعى المستبدون إلى تحقيق السلطة القائمة على شرعية الأداء من المواطنات أو المنظمات النسائية لإرضاء الجماهير. وفي تفصيل هذه النقاط نقول:
- إحدى وظائف مصادرة حقوق النساء لصالح النظام هو منع المعارضة أو الحركات النسوية من التعبئة حول هذه القضايا (فمن مصلحة النظم الأوتوقراطية عدم التعبئة الجماهيرية بأي شكل)، وتقسيم المعارضة بين حركات نسوية مقبولة يتم دمجها في النظام، وأخرى غير مقبولة يجري التعامل معها بالإقصاء أو القمع والسجون تحت دعاوى أنها غربية أو ضد قيم المجتمع أو تتلقي تمويلا دوليا، وكأن أنظمتنا براء من هذا كله.
ومن المرجح أن تسمح الأنظمة الاستبدادية بنشاط المجتمع المدني في مجالات مثل المساواة بين الجنسين التي لا يُنظر إليها على أنها تشكل تهديدًا مباشرًا للنظام القائم، ولكنها بدلاً من ذلك، يمكن أن تنسب الفضل في أي تقدم يتم إحرازه إليها.
النظام هو من منح حقوق النساء وليس الحركات أو الرموز النسوية؛ ففي الوقت الذي كانت تتعرض فيه أجزاء من هذه الحركات للتضييق والسجن كانت مزيد من حقوق المرأة تمنح.
إن العلاقة بين المجالس القومية للمرأة المنوط بها تقييم التقدم في حقوق المرأة على المستوى الوطني، وبعض الحركات النسوية العربية وبين دعم الاستبداد الذي ولد ظاهرة “الإذعان الصامت من الحركات النسائية” ما يحتاج إلي متابعة ورصد؛ ففي ظل تصاعد الاستقطاب الإسلامي العلماني الذي زادت حلقاته بعد الربيع العربي، رأى قطاع معتبر من رموز ومنظمات هذه الحركات في دعم الاستبداد سبيلا لمواجهة نفوذ الإسلاميين من جهة، وتوهموا أنه يمكن دعم حقوق النساء وحماية ما تحقق منها من تغول الإسلاميين، وهو ما ثبت فشله في الواقع حين تراجعت حقوق النساء والمساواة بين الجنسين في عموم المنطقة بما يستدعي من هذه الحركات مراجعة ونقدا ذاتيا بهدف تطوير خطابها وذلك عن طريق الربط بين 3 عناصر، هي الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وبين حقوق النساء.
يجب أن تكون هذه الحركات حريصة على عدم الانجرار إلى الخلط بين إشراك المرأة المتزايد في السياسة والمجتمع وبين الديمقراطية؛ ففي حين أن إصلاحات المساواة بين الجنسين مهمة؛ فهي ليست بدائل عن الديمقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان، وقبول الانتهاكات التي تمارس في مواجهة الخصوم.
- قد يستخدم المستبدون إصلاحات المساواة بين الجنسين للحصول على الهيبة في أعين المجتمع الدولي في محاولة لتهدئة التهديدات الخارجية مع تعزيز سرديات إضفاء الشرعية على النظام، ومزيد من الحصول على التمويل الدولي.
تؤدي الحاجة إلى الموارد الاقتصادية مثل الاستثمارات الأجنبية المباشرة والقروض وتمويل التنمية إلى دفع الإصلاحات المتعلقة بالنوع الاجتماعي.
إن وضع النساء في أدوار رمزية ومناصب رفيعة المستوى، أو إدخال تشريعات للمساواة بين الجنسين، أو تعزيز حقوق المرأة…إلخ؛ كل ذلك حتى يتمكن النظام الاستبدادي من وضع نفسه على أنه حديث وتقدمي وبالتالي تعزيز سمعته الدولية.
- قد يسعى المستبدون أيضا إلى تهدئة التهديدات التي يتعرض لها حكمهم من المواطنين من خلال الادعاء بأداء متفوق في مجال المساواة بين الجنسين؛ تتضمن مثل هذه الادعاءات -عادة- الاستشهاد بإنجازات حقيقية أو مصطنعة في تلبية احتياجات المواطنين. فيما يتعلق بالمساواة بين الجنسين، يعني هذا غالبًا مشروعات المساواة بين الجنسين رفيعة المستوى التي تدعمها الدولة، أو حملات تعتني بصحة المرأة أو المرأة المعيلة، ويمكن أيضا أن تظهر مشاريع الإصلاحات القانونية المتعلقة بوضع المرأة أو رفاهها في ادعاءات شرعية الأداء. كما قد يؤدي تعزيز المساواة بين الجنسين إلى تحقيق منافع سياسية في شكل توسيع ائتلاف دعم النظام، كما جرى للنظام المصري في 30 يونيو/حزيران 2013.
وهكذا؛ تُستخدم إستراتيجيات الشرعية هذه لتأمين استقرار النظام وإحباط التحول الديمقراطي، كما يعتبر إحراز تقدم في مجال حقوق المرأة “أكثر أمانا” من الأنواع الأكثر خطورة من الإصلاحات الانتخابية أو إصلاحات المجتمع المدني، أو حرية الرأي والتعبير، والتي يمكن أن تشكل تهديدا مباشرا لبقاء النظام. ويرجع هذا أيضا إلى أن النهوض بحقوق المرأة ينطوي على تكاليف سياسية أقل، لأنها لا تتطلب -ولا تؤدي بالضرورة- إلى زيادة الانفتاح السياسي.
يجب أن يكون المواطنون المنظمون الذين يهتمون بكل من الديمقراطية والمساواة بين الجنسين على دراية بالمخاطر المتمثلة في أن اعتماد حكومتهم لإصلاح المساواة بين الجنسين يمكن أن يكون أجوف، أو يمكن أن يكون محاولة لاستيعاب المنظمات النسائية وقيادتها البارزة أو كلاهما. لا ينبغي أن يؤدي تبنيهم من قبل المستبدين إلى إعفاء هؤلاء الحكام من التقييمات النقدية لدوافعهم، أو خداع صانعي السياسات في الديمقراطيات حول ما يحدث عندما يسعى المستبدون إلى غسل أنظمتهم من منظور النوع الاجتماعي.
الكوتا النسائية
على مدى العقود الثلاثة الماضية؛ أصبحت قوانين الكوتا واحدة من أوسع الإصلاحات الانتخابية انتشارًا في العالم، وهنا يلاحظ على مستوى المنطقة ككل أنه رغم استخدام عديد الأنظمة في المنطقة للكوتا النسائية إلا أن نسبة التمكين السياسي للنساء لم يتجاوز 12% رغم زيادة تمثيلهن في البرلمانات العربية؛ ففي مصر اليوم -علي سبيل المثال- تشغل النساء 27% من مقاعد البرلمان أي 162 مقعدا، في حين تشكل 24% من مجلس الوزراء قبل التعديل الأخير حيث يوجد 8 وزيرات من أصل 33؛ وهكذا سارت على النهج نفسه البلدان العربية الأخرى. إلا أن تقييما لهذا المظهر الخادع مما يستحق التوقف عنده من أكثر من زاوية:
فرغم زيادة التمثيل لم تشهد حقوق النساء نقلة نوعية مختلفة، وفي العديد من الأنظمة الاستبدادية تميل المشرعات حتى الآن إلى أن يكنّ أكثر ولاء لأحزابهن من الرجال؛ وفي الوضع الاستبدادي، قد يكون ولاء المرأة شرطًا لدمجها، لذا فإن جلب المزيد من النساء ذوات الانتماء إلى الحزب الحاكم أو القريبات من النظام إلى البرلمان يمكن أن يقوي دعم النظام بدلاً من تهديده، كما تمثل الكوتا مقاعد إضافية عادة ما تكسبها الحكومات القائمة، ويمكن في الوقت نفسه تصويرها باعتبارها مكسبا للدمج والشمول الديمقراطي للفئات المهمشة والضعيفة. وتتأكد للكوتا أهميتها للنظام من الزوايا نفسها التي شرحناها عاليه، شرعية داخلية، وقبول دولي، وتغطية على الاستبداد، والحصول على دعم بعض الحركات النسائية، مع إثارة الفرقة بينها بقبول بعضها وإقصاء أخرى.
المرأة الرمز
تتبقى نقطة أخيرة يحسن مناقشتها في خاتمة المقال وهي كيف تتصور الأنظمة العربية المرأة في ظل تصاعد خطابات وطنية تعلي من قيمة الدولة فوق المجتمع، أو ما أطلق عليه أحد الباحثين “عقيدة دولة الدولة”، 3 مكونات لهذه الأيديولوجية الغامضة تتحول معها المرأة إلى رمز أو أيقونة يجري استبعادها من المجال العام.
حيث تؤكد الخبرة التاريخية أنه إذا زاد ترميز النساء جرى استبعادهن من الساحة العامة، وإذا تم استدعاؤهن فإنه يجري بشكل مؤقت؛ وسرعان ما يعدن إلى خدورهن -كما استعان بهن نظام السيسي في مصر عند تأسيسه وفي أول انتخابات رئاسية جرت فيه، ويجري عادة استدعاء فئات من النساء واستبعاد أخرى؛ فما يسيطر على المثال النسائي هو المرأة البرجوازية أو التي تنتمي للطبقات الوسطى المتعلمة مع إقصاء للفلاحات والعاملات اللائي ينتمين للطبقات الشعبية.
أما المكونات الثلاثة فهي:
- اختزال الأمة في صورة الأسرة التي يحتل فيها الأب أو الأخ أو الزوج الذكر دور مهيمن، وهذه الصورة الاختزالية هي التمهيد الضروري لادعاء الحاكم/الأب مكانته في الأمة وفوق المواطنين. وبشكل عام، تعكس هذه الرؤية الاختزالية رؤية الأنظمة العربية للنساء والرجال ليس بوصفهم أفرادا، وإنما بوصفهم جزءا من كيان “العائلة” التي تصادر الأفراد المكونين لها، وارتباط ذلك بالنزعة القومية، كما تطرح نفسها بوصفها حَكَماً فاصلاً في القضايا الخلافية ومتجاوزاً لها، وأنها صاحبة الحلول المطلقة خاصة في القضايا المصيرية والتاريخية.
- تتوافق ادعاءات الأنظمة بالحفاظ على قيم الأسرة المصرية أو السعودية أو الجزائرية وغيرها، وقيم المجتمع تصوراتها الانضباطية عن الأسرة، وعن مؤسسات الدولة المؤدلجة، الحريصة على التجانس الأسري وعدم تمرد الشباب والشابات على القيم العائلية. لدى هذه الأنظمة تصورات عن مجتمع أكثر انضباطا وأقل قابلية للتمرد، ووفقا لهذه الرؤية فالخلافات الأسرية مُهدِدٌ حقيقي لمحاولات الضبط والهيمنة. وتكتسب الأدوات القانونية أهمية لتحقيق القيم الانضباطية في المجتمع، وهنا تظهر -كما أشارت الباحثة نوران أحمد في مقالها إلهام عن قانون الأحوال الشخصية المصري- “مبادئ الوحدة والمركزية القانونية التي تُيسر إحكام سيطرة النظام على الجهاز القضائي وحكم المجتمع.”
- ارتباط الشرف الوطني بشرف المرأة؛ وكما أشارت بيث بارون في كتابها الرائد الذي حمل عنوان “Egypt as a Woman Nationalism, Gender, and Politics” فإن القوميين “استحوذوا على مفهوم شرف العائلة، ورفعوه إلى المستوى الوطني لإنتاج خطاب الشرف الوطني. لم يكن على الأمة الدفاع عن الشرف فحسب؛ بل كان الشرف هو الذي حدد الجماعة وكان في صميم هويتها”، وتضيف “تم استخدام مفهوم الشرف الوطني، الذي لم يكن ثابتا أبدا، لأغراض مختلفة من قبل مجموعات مختلفة، ادعت جميعها أنها تحميها. حاولت الكاتبات توجيه مفهوم الشرف بعيدا عن نقاء المرأة، لكنهن لم يتحدين مفهوم الشرف نفسه، أو جعل النساء مستودعات له”.
وهكذا؛ يجب أن نتنبه لدور الخطابات الوطنية المتصاعدة في المنطقة في بناء الذكورة المهيمنة على المرأة، أو تحويلهن إلي رمز أو أيقونة يجري استبعادها من المجال العام، ويصبح من الضروري الكشف عن عذريتهن كامتداد للشرف الوطني.
هشام جعفر _ الجزيرة نت