خلال أعوام تسعينيات القرن الماضي، أوصل حافظ الأسد، عبر إعلامه، الرأي العام السوري إلى قناعة مفادها، أن كل مشكلات السوريين الاقتصادية سوف تُحل بعد تحقيق السلام (العادل) مع إسرائيل. كان الأسد وقتذاك على حافة توقيع هكذا اتفاق، حيث تبادل الرسائل مع رابين عبر وسطاء على رأسهم الملك الحسن الثاني، وتالياً عبر الأميركيين وخصوصاً بيل كلينتون ووزيرة خارجيته أولبرايت، ثم عبر لقاءات مباشرة مع الإسرائيليين في عهد إيهود باراك، كان فاروق الشرع يحضرها ممثلاً عن الأسد.
بعيداً عمّا آلت إليه الأمور بعد ذلك، فإن ما أريد قوله هنا، هو أن الانعطافات السياسية الكبرى تحتاج إلى سياسات إعلامية موازية لا تقل قوة عن الجهد الديبلوماسي. في واحد من أهم عناوين بروباغندا الأسد عام 2000 وقبل موته بأشهر قليلة، عنونت إحدى صحف النظام قبل قمة الأسد مع بيل كلينتون في جنيف، والتي كان يُعتقد أنها ستتوج التفاهمات الأولية لتتحول إلى اتفاق، بأنها “قمّة القرن”، وفي افتتاحية الصحيفة، أنه ما لم يحدث شيء استثنائي آخر بعد القمة، فإنها ستكون أهم حدث عالمي في القرن العشرين! بمعنى أن انتصار الأسد عبر توقيع اتفاق مع إسرائيل، وهو أهم ما حدث في القرن، سوف يرفع “زير” الأزمات من “بير” السوريين.
قبل أيام، وإثر تصريح لوزير الخارجية التركي جاويش أوغلو، هبت موجة عارمة في أوساط المناوئين للأسد، اعتراضاً على أي صلح معه. صلح أوحت به تلك التصريحات، رغم توضيح وزارة الخارجية التركية في اليوم التالي، فإن المؤكد أن ليس هناك في عالم وزراء الخارجية ما يدعى “زلات اللسان”. حدث ذلك الاعتراض في ضفة السوريين الثائرين على الأسد. بعضهم اعتبر التصريحات بمثابة بالون اختبار، يشي بما تحمله قادمات الأيام، وهذا أسلوب معروف في عالم السياسة، أي التدرج بالإفصاح عن السياسات القادمة، أو الانعطافات السياسية المحتملة.
هناك سياسات للشفافية والإفصاح معروفة في عالم الشركات الاقتصادية، خصوصاً تلك المدرجة في أسواق المال والبورصة، أو التي تنوي دخول تلك السوق. وسياسة الإفصاح غالباً ما تكون محدودة، بحسب اللحظة “Limited disclosure” وتتبع القوانين المُلزمة في أسواق المال. وهذا لا يعني تغيير لسياسات الشركات، بل لسياسة الإفصاح تحديداً وفقط. وما يتم الكشف عنه هو القدر الضروري، مما يجب إظهاره للعلن اضطراراً على الأغلب.
في الدول كما في الشركات، لا ينبغي الإفصاح عن كل شيء. بين فترة وأخرى تضطر الدول، تحت وطأة المستجدات إلى إجراء تعديلات على سياستها المعلنة. وتعلمون أن هناك دولاً تتيح علنياً أرشيفها السياسي وحتى الأمني، بعد مضي خمسين سنة، أكثر أو أقل، فيكتشف الجمهور حقائق ومفاجآت، وتبدأ الماكينات الإعلامية، بإعادة تحليل واقعي، لمرحلة تاريخية كانت تحليلات مجرياتها قائمة على التخمين.
بالعودة إلى التصريح التركي، باعتباره بدا لكثيرين أنه مقدمة لمقاربة سياسية مختلفة للملف السوري، فعلى الأرجح، حسبما أرى، إنما هو تغيير لسياسة الإفصاح، تمهيداً لما سيظهر للعلن مستقبلاً، وهو بالمناسبة، استمرار لما كان يجري بالسرّ، أو مواربة على الأقل، خلال السنوات الأخيرة. وهو على ما أعتقد بالون اختبار روسي تركي وليس تركياً فقط. يرصد من خلاله الطرفان ردود الفعل والقابليات على الضفتين. فهو يستهدف السوريين في مناطق سيطرة النظام، كما الآخرين المعارضين له خارج مناطق سيطرته.
لعلّي في غنىً عن سرد الحجج، التي تبرر إقحامي روسيا كشريكة حتمية في مشروع حلٍّ يطرحه وزير خارجية تركيا، لأنّ ما يجري اليوم في سوريا، وما سيجري لاحقاً، ليس سوى امتدادٍ لتفاهماتٍ رُسمت خطوطها العريضة قبل ست سنوات في أستانا، وقد تمتعت هذه التفاهمات بمناعة قوية، حصّنتها ضد كل ارتدادات المتغيّرات الدولية التي عصفت بالعالم كله في السنوات الست من عمرها.
بالعودة لاستقراء نتائج بالون الاختبار الأستاني على السوريين، فقد رأى العالم وسمع الموقف الرافض للسوريين الخارجين عن سيطرة نظام الأسد، من خلال مظاهرات جرت شمال وشمال غربي سوريا، وقد ساهم هامش من الحرية في هذه المناطق بسهولة رصد ردة فعل هذه الشريحة من السوريين. هذا الهامش النسبي من الحرية غير متاح أبداً للسوريين في مناطق سيطرة نظام الأسد، لكننا سنجدُ في العالم الافتراضيّ لديهم، تفاعلاً لا يقلُّ زخماً عن مظاهرات أشقائهم في الشمال.
عبر حسابها على فيس بوك نشرت إحدى الصفحات الموالية، السؤال الآتي: “هل تعارض المصالحة بين تركيا والسيد الرئيس بشار الأسد؟” أحدث السؤال تفاعلاً كبيراً، سأحاول هنا نقل بعضه حرفياً، والتفاعل هنا بالتأكيد من موالي الأسد، وأعداء أردوغان كما عبروا في معظم ردودهم، وهذا أمر مفهوم بطبيعة الحال. “إطلاقاً. وين المشكلة بنحط إيدنا بإيد الشيطان بحد ذاتو لنخلص” وكما يبدو فإن الشيطان هنا هو تركيا، وهذا ما عمل عليه إعلام النظام خلال عقد كامل، مما يعني صعوبة أية انعطافة قادمة أمام جمهوره، لولا ما وصلت إليه حياتهم، وهنا الرهان. معلقة أخرى ستوجز موقفها الذي ينم عن اليأس والعدمية، بالقول: “ما حدا شايفنا، آخر همهم رأينا”.
لا تخرج معظم التعليقات الواردة على المنشور المذكور عن دائرة الموافقة، بل بدا أن للمبادرة أثراً إيجابياً، حيث رأى فيها كثير منهم مخرجاً من مأساتهم المعيشية. هنا يخطر لنا أن نتساءل، هل تتضمن أهداف البالون تخفيف الاحتقان الشديد في نفوس الحاضنة الشعبية للنظام، وقطع الطريق على أي مستجدات تخلط الأوراق كلها، خصوصاً أن المستنقع الأوكراني والانتخابات التركية، يجعلان كلاً من روسيا وتركيا على التوالي، في غنى تام عن أي حرارةٍ تعيدُ الحياة للملف السوريّ المجمَّد. من المؤسف أنّ السوريين الأعداء من الطرفين، غافلون إلى حدٍّ كبير عن تلك الحقيقة.
في الشمال السوري مثلاً، نرى كثيرين يلوكون بخدرٍ لذيذ إشاعةً تؤكد عزم الأتراك على استرداد حلب، والعودة إلى قلعة المضيق في شمال حماة. وفي مناطق النظام، فتح كثيرون أشرعتهم، في انتظار رياح التغيير التي ذكرها الرئيس الروسي بوتين في المؤتمر الصحفي الذي سبق لقاءه بالرئيس التركي في سوتشي، قبل عدة أيام. رياحٌ ينتظرونها عسى تنهي ما بلغوه من وضع معاشي، قارب الجوع لدى شريحة كبيرة من السوريين في مناطق سيطرة الأسد.
تعليقٌ طريف وردٌّ أكثر طرافة من إحداهنَّ على المنشور (الاستطلاع) المذكور آنفا: “الإرهابيين اللي عند أردوغان عايشين أحسن مننا بكتير. يا ريت يصير تقارب وصلح ومباوسة كمان”. فتحذرها أخرى بسؤال له في العرف السوري دلالاته الخاصة: “على بالك تاكلي حلاوة؟”. أكل الحلاوة في سوريا يعني الاعتقال، فالحلاوة هي الوجبة الأشهر في سجون الأسد.
لقد آتى بالون الاختبار أُكُلَهُ، رغم أن الموقف من المقترح متناقض بين الضفتين السوريتين، ولا يخفى على أسياد الملف أن السر يكمن في عبارة قصيرة: “حل مع رحيل الأسد، أم بوجوده؟”. اليوم يبدو أن هناك ما يشبه الإجماع الدولي على اعتبار الأسد أفضل من أي بديل محتمل. والقرار هنا كما اعتقدت دائماً في تل أبيب التي تعتبر أن شيطاناً مطيعاً ومنضبطاً تعرفه، أفضل لها من شياطين متمردين. ولو ذهبنا قدماً بالتحليل، فسنجد أن وجود قوات الأسد على حدودها الجنوبية، هو أفضل لتركيا من وجود حزب العمال الكردستاني، أو قسد.
في مقابلة أجرتها صحيفة “الوطن” الموالية لنظام الأسد، مع المهتم بالشأن التركي بسام أبو عبد الله قبل أيام يقول: “هناك مؤسسات تضغط، وترى أنه لا إمكانية لإيجاد حلول إلا بالحوار بين سوريا وتركيا، لأنّ هذا الأمر سيحلُّ الكثير من القضايا لمواجهة المشروع الأميركي الإسرائيلي، وهو مشروع الانفصال شمال شرق سوريا”. لا تخفى رائحة النظام المنبعثة من ثنايا تصريح أبو عبد الله. ثنايا موسومة بخاتم “الممانعة”، والتي يُشرعن بها نظام الأسد عادةً أي خطوة حادة الزاوية. فمن هي الجهة التي يريد إقناعها من خلال حشر إسرائيل؟ لعلها إيران الثالث الغائب عن آخر قمم سوتشي؟ ربما. رغم صعوبة الاقتناع بأن بشار سيجرؤ على إخفاء أي أمر عن إيران.
أخيراً ينبهنا تصريح أبو عبد الله، المرتبط بالمخابرات السورية، أن هناك ضلعاً سورياً ثالثاً يقع ضمن مجال بالون الاختبار المتعدد الغايات. إنهم سوريون يمتدون بين الفرات ودجلة أغراهم الحليف الأميركي بأحلامٍ وردية “تُبنّج” العقل عن إدراك ما يحاك للجميع، وهم بحسب المعطيات الأخيرة، الحلقة الأضعف والقربان الأقرب للمذبح، حين يمكن للحليف الأميركي أن يتخلى عنهم في صفقة ما، على طاولة في كييف أو بكين أو تل أبيب. بالطبع دون أن يعني ذلك، أن الفريقين الآخرين في منأى عن ذات الطاولات والمصير والمذبح.
مالك داغستاني _ تلفزيون سوريا