قبل عدة أيام توفي “علي حيدر”، وهو ضابط سابق برتبة “لواء” لعب دوراً مهماً في تمكين سلطة حافظ الأسد بعد انقلابه العسكري 1970م، وساهم بشكل كبير في حمايتها واستمرارها، وتعزيز سيطرتها وقمعها للشعب السوري، وكان يشغل موقع قائد “الوحدات الخاصة”، لفترة طويلة تزيد على ربع قرن.
لا يذُكر في تاريخ علي حيدر العسكري أي من الإنجازات العسكرية المتميزة، رغم أنه كان قائدا للوحدة العسكرية التي يفترض أنها تضم نخبة الجيش السوري، وأن أفرادها تلقوا تدريباً عالياً، وأنها الأقدر على تنفيذ العمليات العسكرية النوعية، وربما سيذكر البعض مشاركته في حرب تشرين 1973م، على أنها إنجاز عسكري يجب الاعتراف به له، لكن وقائع الحرب الحقيقية، وتفاصيلها، ونتائجها على الأرض لاتعطيه أي تميز عسكري، وما حققته بعض كتائب الوحدات الخاصة إنما تم بفضل مبادرات لضباط أقل رتبة، ما تبقى له من أعمال عسكرية فإنه ينحصر في المعارك التي خاضها ضد الشعب السوري في حماة، وجسر الشغور، وحلب وغيرها، وفي معاركها في مواجهة قوى لبنانية داخل الأرض اللبنانية بعد دخول الجيش السوري إلى لبنان 1976م.
ليس لحدث الوفاة أي أهمية فيما يخص الوضع السوري الراهن، فالمتوفى هو خارج دائرة الفعل منذ أكثر من ربع قرن، ولم يكن له أي حضور في الشأن العام السوري منذ أن قرر حافظ الأسد عزله 1994، وجاء قرار عزله وتجميده ضمن الترتيبات التي هيأت لانتقال السلطة من الأسد الأب لابنه “بشار”، والتي تمّ بموجبها إقصاء معظم الضباط الفاعلين، بهدف قطع الطريق على أي من الشخصيات القديمة من استثمار حضورها القديم، وتشكيل مركز قوة قد يهدد سلطة العائلة.
ليس للحديث عن اصطفاف “علي حيدر” مع “رفعت الأسد” في أزمة الحكم التي نشبت 1984 أي علاقة في تنحيته، فموقفه حينذاك لم يكن للمفاضلة بين “حافظ” وشقيقه “رفعت”، وإنّما جاء على خلفية المعلومات التي نقلها رفعت الأسد في اجتماع لمجموعة ضباط حول الوضع الصحي المتردي لحافظ الأسد، وحول عجزه عن قيادة سوريا في المرحلة القادمة، سواء في حالة الوفاة، أو في حالة العجز الكلي التي سوف ترافقه في حال بقائه حيا، وعندما تأكّدت عودة حافظ الأسد إلى الحكم أعلن التزامه الكامل بحافظ الأسد، لا بل كان من المطالبين بإبعاد رفعت باعتباره كاذباً، وأن نواياه كانت تتجه لانقلاب عسكري، وليس لانتقال السلطة من شخص لآخر بسبب الموت، هذا الموقف هو الذي دفع حافظ الأسد للإبقاء عليه عشر سنوات أخرى في موقع قيادة الوحدة العسكرية الأكثر أهمية لجهة حماية حكم العائلة في الجيش، خصوصاً بعد حل سرايا الدفاع التي كان يقودها رفعت الأسد.
إذاً قرار حافظ الأسد بتجميد علي حيدر وسجنه لفترة قصيرة، ثم تسريحه من الجيش لم يكن بسبب أحداث 1984م، ولم يكن لأسباب مالية كما حاولت أجهزة النظام تبرير عزله، وإنّما كان بسبب إصرار حافظ الأسد على إبقاء موقع الرئاسة بيد عائلته، وخصوصاً بعد وفاة باسل الأسد، واختيار شقيقه بشار، الأمر الذي استفز علي حيدر واعتبره في جلسة من جلساته الخاصة أنه قرار خاطئ، قد يسبب انهيار السلطة التي استمات هو وآخرون في قيامها وحمايتها.
باختصار لم يأتِ موقف علي حيدر الرافض لتوريث السلطة بدلالة المصلحة الوطنية، أو بدلالة الشرعية، بل كان جوهر موقفه هو الإبقاء على هذه السلطة، وقيادتها من شخص قادر على حمايتها واستمرارها، وقادر أيضاً على حماية سماتها الطائفية.
غالباً ما يتجه السوريون في قراءة الحوادث المماثلة كوفاة “علي حيدر” وغيره، ممن ساهموا في ترسيخ حكم عائلة الأسد، أو عند عزل أحدهم، إلى الجانب الشخصي وسيرة الشخص وغير ذلك، متناسين أو متجاهلين بنية “الدولة” التي أنشأها حافظ الأسد وطبيعتها، فما فعله حافظ الأسد منذ انقلابه 1970م، كان بتكثيف شديد هو زيادة تشويه الدولة المشوهة أصلاً، وكم أفواه الشعب، ووأد أي إرهاصات حقيقية، قد تؤسس لولادة حياة سياسية حقيقية، مثل وجود الأحزاب المعارضة، أو خلق مايسمى “المجتمع المدني”، أو غير ذلك مما تفترضه الدولة الحديثة.
منذ منتصف الثمانينيات، وبعد حسم حافظ الأسد لمعركته مع الإخوان المسلمين، وما نتج عنها من تغوّل شديد للأجهزة الأمنية، ولمؤسسات القمع على المجتمع السوري، لم يعد في سوريا دولة (هي كانت شبه دولة أساساً)، بل أصبحت سوريا خاضعة لمعادلة وحيدة ترتكز على عنصر وحيد، هو الولاء، الولاء ليس للوطن، بل للحزب (قبل انقلاب حافظ الأسد)، وللزعيم أو الأسرة الحاكمة (بعد انقلابه)، هذا أدّى بشكل طبيعي إلى فقدان الجيش لمعناه ولدوره الأساسي، وأصبح دوره وولاؤه للزعيم ولورثته.
في مقدمة وظائف الدولة وعمل مؤسساتها يأتي ضبط وقوننة وحماية العلاقة التي تربط أفراد المجتمع فيما بينهم أولا، وفيما بينهم وبين السلطة ثانيا، وفيما بينهم وبينها ثالثاً، لكن في الدولة المشوّهه التي صنعها حافظ الأسد لم يعد لها ولا لمؤسساتها ذلك الدور المفترض أن تقوم به، فلم تعد مؤسسات الجيش والأمن، وحتى القضاء والتعليم و..الخ، قادرة عن فصل نفسها عن معادلة الولاء للحاكم، ولم يعد بإمكان الجيش السوري أن يتصرف على أنه جيش وطني قام أساساً لخدمة الوطن وحمايته، بل أصبح في صلب بنيته مجرد وحدات تعمل لخدمة أفراد وتدين بالولاء لهم.
الوجه الآخر لهذه المشكلة لا يكمن فقط في فصل مؤسسات الدولة عن وظيفتها الأساسية، بل يكمن أيضاً في قبول المجتمع لهذه الصيغة من العلاقة بين الفرد والدولة، والخضوع لها، وبالتالي فإن الكثير من المواقف التي صنّفها السوريون على أنها تتعارض مع النظام السياسي المتمثل بإدارة عائلة الأسد لسوريا، لا يُمكن تصنيفها على هذا النحو وفق تعريفات السياسة، فهي مجرد آراء تختلف في رؤيتها لأفضل الخطط، للإبقاء على هذه السلطة وحمايتها واستمراها.
لم تعرف سوريا الدولة بمعناها الحقيقي، ولم تعرف أيضاً صيغة المجتمع القائمة على تعاقد أفراده كمواطنين، لهذا سهّل على حافظ الأسد إعادة صياغتها على نحو يسخرها لخدمة العائلة، وعندما اعترض علي حيدر على قضية التوريث، لم يكن بدافع تصحيح علاقة الدولة بالمجتمع، أو بمحاولة استعادتها لدورها، بل كان لترسيخ السلطة، وكان من الطبيعي بعد أن أجهز علي حيدر وكل أشباهه على الدولة، أن يصبح التخلص منه ومن أي آخر ترى العائلة أنه لم يعد مناسباً بالغ السهولة، لأنهم أصبحوا أزلام عائلة، وليسوا رجال دولة.
بسام يوسف _ تلفزيون سوريا