لعله من الصحيح أن المحافل العربية والإقليمية والمرجعيات الدولية لم تكن بعيدة عن كل ما يجري في المشهد السوري، بل ربما أوحت وتيرة التفاعل المتسارعة – آنذاك – مع قطار الأحداث في سوريا أن سوريا لن تُتْرك لمصير مجهول كما انتهت إليه المآلات الراهنة. فعلى المستوى العربي، يمكن أن يكون القرار الصادر بتاريخ 16 – 11 – 2011 بتعليق عضوية نظام دمشق في الجامعة العربية إلى أن يستجيب لما تضمنته المبادرة العربية آنذاك، أحد ردود الفعل الجدّية على ممارسات آلة القتل الأسدية، فضلاً عن كونه تعبيراً عن التضامن مع المطالب المشروعة لثورة السوريين، ثم تتالت بعد ذلك ردود الفعل الدولية الرسمية والتي تبلورت في القرارات الدولية الصادرة عن الأمم المتحدة بدءا من قرار جنيف 1 لعام 2012، ثم القرار 2118 لعام 2013 على أعقاب مجزرة الكيماوي التي نفّذها النظام في الغوطة الشرقية، ومن ثم القرار 2254 لعام 2015، ولعل جميع القرارات السابقة تنطوي في مضامينها على محددات وثوابت ناظمة لعملية تفاوضية تفضي إلى حل سياسي للقضية السورية، ولكن ما هو معلوم للجميع أيضاً أن التنفيذ العملي لأي قرار أممي مرهون بوجود القوّة التي تدفع به نحو التنفيذ، أي إن المسألة تبقى مرتبطة بموازين القوى على الواقع، كما أنها مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بتوافق هذا القرار أو ذاك مع مصالح الدولة النافذة ذات العضوية الدائمة في مجلس الأمن، وبناء عليه، فقد استطاع الروس تحييد تلك القرارات، وإبقاءها دون أية فاعلية، ولكن في موازاة ذلك شرعت موسكو في التأسيس لمسار تفاوضي من خارج الفضاء الأممي، يمكن لها من خلاله فرض رؤيتها لإنهاء الصراع في سوريا، وكان من الضروري – وفقاً للروس – أن يقترن التأسيس للمسار السياسي الجديد، بمسار ميداني موازٍ، يكون داعماً ومُعَزِّزاً للأول، وهكذا كان التدخل العسكري الروسي المباشر في أواخر أيلول 2015، والذي أفضى إلى نتائج مثيرة بالنسبة إلى موسكو، لعل أبرزها عودة السيطرة على مدينة حلب الشرقية أواخر العام 2016.
يمكن التأكيد على تمكين الأسد من السيطرة الكاملة على حلب جسّد الحافز الأكبر لانطلاق مسار أستانا في مطلع العام 2017، والذي أفضى إلى نتائج ميدانية أدّت إلى انحسار القوى العسكرية للمعارضة، ومن ثم احتواؤها وتقييدها عسكرياً، ومن ثم مصادرة قرارها من خلال التفاهم مع الحليف التركي، وقد أتاحت السيطرة العسكرية للروس تمكين سلطة الأسد في معظم المناطق التي استعادت السيطرة عليها، وقد تبدو الإشارة ضرورية إلا أن حيوية مسار جنيف كانت تضعف تدريجياً تزامناً مع انتصارات بوتين العسكرية، بل يمكن التأكيد على أن المُنجز الأهم في إفراغ مسار جنيف من حيويته هو قدرة الروس، من خلال التفاهم مع المبعوث الدولي ستيفان ديمستورا، على فرض فكرة السلال الأربعة في لقاء جنيف الرابع بتاريخ 23 شباط 2017، ومن ثم قدرتهم بعد ذلك على الإبقاء على سلة الدستور واستبعاد السلة الأهم ( إنشاء هيئة حكم انتقالي).
على الرغم من السيطرة الميدانية للروس وتقهقر قوى المعارضة، وكذلك على الرغم من إجبار المعارضة الرسمية على التماهي الكلّي مع مسار أستانا، ومن ثم الخروج من لقاء سوتشي أواخر العام 2019 بقناعة مؤدّاها أن العملية السياسية تم اختزالها بلجنة دستورية مجهولة المصير، إلّا أن الروس لم يفلحوا في استثمار ما أنجزوه عسكرياً، وتحويله إلى مكسب سياسي مباشر، وذلك بفعل الكوابح الدولية للولايات المتحدة ومن خلفها الموقف الأوروبي الرافض لأي عملية تطول إعادة الإعمار وعودة اللاجئين دون أن يقترن ذلك بحل سياسي وفقاً للمرجعيات الأممية، مع التأكيد على أن مسار أستانا – وعلى مدى أكثر من أربعة أعوام – لم يبق إطاراً خاصاً بالقضية السورية فحسب، بل بات إطاراً سياسياً لرعاية مصالح الدول الثلاث ( روسيا – تركيا – إيران – ) الراعية لهذا المسار، وبناء على هذه المسألة فإن الاختلاف أو التوافق بين رعاة أستانا حول الشأن السوري لم يعد أولوية وحيدة، بل باتت الجغرافيا السورية مسرحاً لصراع مصالح تلك الدول الثلاث، وقد أثبتت قمة طهران الأخيرة ( 19 تموز الماضي) أن الخلافات السياسية بين أطراف القمة حول الشأن السوري، لا يمكن أن تفسد التوافقات الأخرى ذات المنحى الاقتصادي بين تلك الأطراف، بل يمكن ترحيل ما هو مُختَلفٌ عليه إلى مستقبل ليس للسوريين أي دور في صياغته أو رسم ملامحه.
حالة الانسداد السياسي بما يخص الحالة السورية بين رعاة أستانا تتزامن مع ظهور مستجدات سياسية لا يمكن تجاهلها، على الأقل بالنسبة إلى كل من روسيا وتركيا، لعل أهمّ تلك المستجدات، الحرب الروسية على أوكرانيا التي اندلعت في الرابع والعشرين من شباط الماضي، تلك الحرب التي جعلت بوتين في بداية تحدٍّ جديد، وعلى كل المستويات، مع واشنطن ومن خلفها أوروبا، وهو يدرك جيداً أن مسارات هذا التحدّي لن تكون قصيرة الأمد كما لن تكون نتائجها آنية أو مباشرة، الأمر الذي قد يدفع بموسكو إلى استدارات سياسية تعيد من خلالها ترتيب الأولويات، فهل ستفضي هذه الاستدارات المحتملة إلى تحوّل في الموقف الروسي حيال سوريا؟ ثمة حراك روسي سوري تركي بعيد عن الإعلام ولا يتخذ طابعاً رسمياً، بدأت تتسرّب أخباره من هنا وهناك، تشي بإعادة إحياء روسيا لفكرة (المجلس العسكري) التي أثيرت في السنوات السابقة أكثر من مرة، تزامناً مع تنسيق لم ينقطع بين الخارجية التركية وقيادة المجلس العسكري. واقع الحال أن ثمة ما يجعل كلا الطرفين الروسي والتركي أمام استحقاق لا بدّ من اجتيازه، فلئن كان الجانب الروسي يرغب في حسم المسألة السورية مكتفياً بما حققه من مكاسب اقتصادية، راهنة ومستقبلية، حرصاً على استعداده لمواجهة قد تبدو طويلة الأمد مع الغرب، فإن أنقرة بدورها لم تعد ترى أن المشكلة السورية تكمن في من سيكون على رأس السلطة في سوريا بقدر ما تراها متمثلة بوجود حزب العمال الكردستاني ومشتقاته السورية على حدودها الجنوبية، وبالتالي فربما كان أي مسعى روسي لإيجاد البديل عن الأسد في سوريا مصحوباً بتوافق الطرفين على إزالة قسد أو غربلتها من محتويات pkk، سيكون محطّ ترحيب أنقرة التي ما تزال تجد في حماية أمنها القومي أولوية أساسية ليس لحاجتها الأمنية فحسب، بل من أجل مواجهة استحقاق انتخابي في حزيران المقبل لا يبدو أقل شأناً من أي مسألة سياسية أخرى. ما هو مؤكد أن هذه الإرهاصات التي تنضح عن الحراك المشار إليه لا يمكن النظر إليها بعيداً عن الحضور الأميركي الذي يسيطر على المساحات الأهم – اقتصادياً – من سوريا، ولكن طالما ما يزال الأمر يدور في فلك الحراك غير الرسمي، فمن المبكّر الحديث عن موقف أميركي ربما لا يكون بعيداً عن الموقف التركي.
حسن النيفي _ تلفزيون سوريا