بات من العبث التساؤل: سوريا إلى أين؟ فالمعروف أنه إلى المجهول. لكن هذا المجهول ليس مجهولاً كلية، بالنسبة إلى السوريين، كما أن ليس مجهولاً إلا لأنه متعلق بالقوى المتحكمة بسوريا: روسيا، أميركا، إيران، تركيا، إسرائيل، رغم ما بينها من خلافات، إضافة إلى الخلافات فيما بينها على الأرض، تدور بين قوى مسلحة، تبدو وكأنها تتنازع فيما بينها، لكن بأوامر من مشغليها.
تعيش سوريا منذ عدة سنوات وحتى الآن، وكما يبدو إلى أجل غير محدد، واحداً من أكثر الأوضاع غرائبية، ومن فرط غرائبيته أنه أصبح متوازناً، ومتفاهماً عليه، ما دام يكرر نفسه، رغم الاختلاف في التفاصيل الصغيرة. بيد أنه هذه الغرائبية تصبح مأساوية بالنسبة إلى شعب منكوب، لا يد له فيما حصل ولا في تداعياته، اللهم إلا في خروجه بمظاهرات طالبت بالحرية، لم يدرك تماماً ما الذي تعنيه الحرية سوى أنها رفع الظلم عنه. بينما النظام وجد في الحرية مأزقاً، ما الذي يفعله الشعب بها، إن لم يكن للطاعة، فلارتكاب الجرائم. لا، إنها مجرد العيش بأمان، وبالتحديد عدم تسليط الأجهزة الأمنية على أنفاسه ومصدر رزقه. لذلك يمارس النظام على الذين ارتكبوا المطالبة بالحرية، فعل التربية بالتجويع والغلاء والفقر، كذلك ندرة الكهرباء والوقود، أي معاقبتهم بالبرد والظلام.
بالإضافة إلى أن الدول المتحكمة بأقدار السوريين، حتى لو رحلت، فالنظام لا يرحل، وكأنه لا حل على الإطلاق. إلا في حال ارتأى رجالات النظام عدم البقاء في السلطة، واختاروا الرحيل، لن يرحلوا خاليي الوفاض، ولن تكفيهم أقل من عشرات المليارات من العملات الصعبة، لم يتوقفوا عن جمعها، يبدو أنها حتى الآن لا تفي بالمطلوب، لهذا يستدينون من الدول المساندة لهم، أموالا يقع عبء تسديدها على عاتق سوريا، أي على الشعب بعد رحيلهم. أما الآن فيتصرفون كأنهم باقون إلى الأبد، لا شيء يضيرهم، وكأن لا شيء يحدث، ولا أناس يموتون من الجوع والفاقة، ولا شبان ينتحرون من انسداد الأفق، ولا أطفال محرومون من التعليم.
المناظر الأشد غرائبية، بالقياس إلى ما سبق، تلك الوفرة التي تتبدى في حضور الرفاهية بالفنادق والمطاعم، وما تمتلئ به الأسواق والمحال من بضائع، لا شيء ينقصك، ما دمت تدفع ثمنه، هذا مع وفرة في الزبائن. كما أن المصايف والمنتجعات تغص بالمصطافين والمنتجعين، لن تجد مكانا لك في مطعم أو الفندق إن لم تحجز قبل أيام، وربما قبل أسابيع. وكأن المتداول عن شظف الحياة، ليس إلا شائعات.
من هؤلاء الذين يتمتعون بطيبات الحياة؟ إنهم سوريون يضمون أشتاتاً من الناس، هناك من تأتيهم تحويلات من الخارج، من أقربائهم الذين يعملون في الخليج وأوربا وأميركا منذ سنوات طويلة، لا يؤثر على مداخيلهم تحويل ربما ألف دولار شهريا لعائلاتهم. أما الذين مداخيلهم بالدولار، فمن أثرياء الحرب، عمولات وتجارات مشبوهة وممنوعة، وتصدير مخدرات، كذلك الذين يتعيشون على التشبيح وخوات الحواجز وفديات الخطف، جاء الوقت كي يتنعموا بأموالهم، الحرب في الداخل انتهت، لكن حرب النهب لم تنته بعد، إنها مستمرة، إنهم الأثرياء الجدد الذين يمتصون دماء الشعب السوري، يتلازم لديهم البذخ مع الإجرام.
ولا ننسى المغتربون القدامى الذين ما زالت تجمعهم مع عائلاتهم صلات قربى لم تنقطع، كانوا يزورون بلدهم كل سنة أو سنتين، عادوا إلى زيارته بعدما هدأت الحرب، بزيارة وداعية، أو أشبه بزيارة حج، قبل أن تنفرط سوريا، وفوجئوا ببلد ليس كما يشاع عنه من غلاء وجدوا كل شيء رخيصاً، أكبر وليمة لعشرة أشخاص لا تكلف أكثر من مئة دولار في مطعم فخم، فاستعادوا ذكريات الياسمين والمشاوي.. آه كم سوريا بلد جميل. وجدوا الحياة على ما يرام. للأسف مهما تعددت زياراتهم، لن يروا الوجه الحقيقي لبلدهم القديم، ولن يطلعوا على المأساة الرهيبة الرازح تحتها، وعن الموت اليومي في المدن والأرياف والمخيمات… هناك من يأكل من القمامة، وهناك من يموتون لولا المساعدات الإنسانية. وهي مساعدات يقتطع منها النظام ما يحلو له، ليس عن لصوصية، بقدر ما هي تربية لهذا الشعب، ليدرك أن الحرية مكلفة، وقد تكلفه روحه.
ولا يجب نسيان هؤلاء الذين لا يستطيعون ارتياد هذه الأماكن الفخمة، مع أن هناك حوالات تصلهم من أولادهم اللاجئين، لكنها لا تزيد على خمسين أو مئة دولار، تقيهم شر الحاجة، بورك أولادهم.
آخر الأخبار، سوريا باتت في مربع آخر… فلنقل اقتحمت عالمية الشهرة والأضواء، بعدما أدرجت في جدول استديوهات العالم، والدليل، “جاكي شان” في دمشق، يصور فيلمه الأخير، فالخراب أصبح فرجة سينمائية، بصرف النظر عما يثيره من تساؤلات، من المسؤول عن هذا الدمار؟ أو من صنع هذا الاستديو؟ أين هم الذين كانوا يسكنون هذه البيوت؟
نعود إلى سؤالنا العبثي، سوريا إلى أين؟ هناك عشرات المشكلات المعقدة في العالم كانت في سبيلها إلى الحل، توقف العمل عليها، الأولوية للحرب الأوكرانية، العالقة في نهاية المرحلة الأولى بانتظار القفز إلى المرحلة التالية، بعدما ظهر أن بوتين أخطأ في حساباته، لم يحقق انتصاراً سريعاً كما توقع، بل واجه مقاومة أوكرانية شديدة كما لم يتوقع، فقد من جنوده نحو خمسة عشر ألفا، ويتعرض لعقوبات اقتصادية موجعة. كذلك أميركا، أخطأت في حساباتها وضعت العالم على فوهة بركان، حلفاؤها في إزاء صعوبات اقتصادية بغنى عنها، روسيا صامدة لم تنهرْ، روسيا لا تدافع بل تهاجم بإجراءات مماثلة، قد تبرد أوروبا في الشتاء القادم.
الحرب كما الواضح بين الأميركان والروس، ساحات القتال أوكرانيا، إذا كان البلدان يعيدان حساباتهما، فالحرب ما زالت في طور التجارب. بينما سوريا ستنتظر طويلا، كي يأتي دورها، إلا إذا… لكن الخل ليس مضمونا، إلا إذا… طبعاً، لا أحد يغامر بالجواب.
فواز حداد _ تلفزيون سوريا