مرّ عامان على دخول قانون “قيصر لحماية المدنيين في سوريا” حيّز التنفيذ، وهو القانون الذي يمكّن الولايات المتحدة الأمريكية من فرض عقوبات متعددة على النظام السوري وكل من يتعامل معه على أساس قانوني.
وضعت الولايات المتحدة القانون قيد التنفيذ، في 17 من حزيران 2020، وفرضت حينها عقوبات على ثلاثة أفراد مقربين من النظام السوري وستة كيانات وشركات تابعة لهم، لتلحقها بعد أشهر بعقوبات على فرد وثلاث شركات تابعة له.
وخلال هذين العامين، شهد وضع السوريين المدنيين الاقتصادي والمعيشي تدهورًا غير مسبوق، ما أثار الجدل حول قضية العقوبات المفروضة على النظام، وخرجت أصوات طالبت بإزالتها مستندة إلى أثرها المحدود أو “المعدوم” أحيانًا على النظام ورجاله، مقابل أثرها المضاعف على المدنيين المقيمين داخل وخارج سوريا أيضًا.
تحاول عنب بلدي في هذا التقرير، التركيز على أثر العقوبات الحقيقي على المدنيين السوريين، والآليات التي يمكن أن تضاعف من أثر العقوبات على النظام.
العقوبات على القطاعات
الخبير والاستشاري في مجال تحليل البيانات والجرائم المالية، والمدير التقني في “مرصد الشبكات السياسية والاقتصادية”، وائل العلواني، قال لعنب بلدي، إن العقوبات التي تُفرض على القطاعات هي الأبرز تأثيرًا على حياة المدنيين السوريين المقيمين في داخل سوريا، أو حتى خارجها.
وقسّم العلواني أنواع العقوبات الأمريكية المفروضة على النظام السوري ومؤسساته ورجال الأعمال المحسوبين عليه إلى ثلاثة أنواع، هي العقوبات المفروضة على القطاعات، وعقوبات القوائم (التي تستهدف أشخاصًا معيّنين، إذ تُجمّد أرصدتهم، ويُمنعون من السفر، وما إلى ذلك)، والعقوبات الثانوية (التي تستهدف أشخاصًا وكيانات بموجب قانون “قيصر”).
وأضاف العلواني أن من أنواع العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة عادة، الحظر على مستوى الدولة، كالعقوبات المفروضة على إيران وكوبا، لكنها غير مفعّلة بالنسبة للنظام السوري.
ما قانون “قيصر”
قانون “قيصر” هو مشروع قانون أقره مجلس النواب الأمريكي، في 15 من تشرين الثاني 2016، ووقّع عليه الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، في 21 من كانون الأول 2019.
وينص القانون على معاقبة كل من يقدم الدعم للنظام السوري، ويلزم رئيس الولايات المتحدة بفرض عقوبات على الدول الحليفة للأسد.
وتعود تسميته باسم قانون “قيصر” إلى الضابط السوري المنشق عن النظام، والذي سرّب 55 ألف صورة لـ11 ألف معتقل عام 2014، قُتلوا تحت التعذيب، أكد مكتب التحقيق الفيدرالي (FBI) صحتها، وأثارت الرأي العام العالمي حينها، وعُرضت في مجلس الشيوخ الأمريكي.
ويشمل القانون كل من يقدم الدعم العسكري والمالي والتقني للنظام السوري، من الشركات والأشخاص والدول، حتى روسيا وإيران، ويستهدف كل من يقدم المعونات الخاصة بإعادة الإعمار في سوريا.
الأثر كبير على السوريين
تراجعت الحياة المعيشية والاقتصادية لمعظم المقيمين داخل مناطق سيطرة النظام منذ أكثر من عامين، وذلك نتيجة لعدة أسباب، أبرزها تدهور قيمة الليرة، وضعف القوة الشرائية، وارتفاع أسعار المواد الأساسية اليومية بشكل متكرر.
ويكاد يكون التبرير الأول والأسرع لهذه الأزمات، كما يتردد على لسان مسؤولي النظام، بأنها ناتجة عن “العقوبات الغربية المفروضة على سوريا”، وتحديدًا عقوبات “قيصر”.
بينما أوضح الخبير بتحليل البيانات وائل العلواني، أن العقوبات التي تستهدف القطاعات هي التي أثرت على السوريين، وفسّر ترويج المسؤولين لأن يكون الأثر الذي يعيشونه ناجمًا عن عقوبات “قيصر”، بمدى انزعاج النظام من القانون وأسباب إقراره (صور المعتقلين المعذبين في سجون النظام) والفضيحة الدولية التي طالته.
وبحسب ما أكده العلواني، تؤثر العقوبات التي تستهدف القطاعات على السوريين داخل وخارج سوريا، إذ أدت العقوبات على القطاع المصرفي، مثلًا، إلى مغالاة بعض البنوك الأجنبية بقضية تطبيق القوانين مع الدول التي يطلق عليها “مناطق المخاطر العالية”، فتقوم على إثرها بإغلاق حسابات بنكية لسوريين خارج سوريا، بالإضافة إلى منعهم من التحويل المالي، والرقابة الشديدة المفروضة على كل مبلغ، مهما كان صغيرًا، يتم تحويله إلى سوريا، بحسب العلواني.
كما تؤثر العقوبات المفروضة على قطاعات محددة على القطاعات الأخرى التي لا تشملها العقوبات، كالقطاع الصحي، والغذائي، إذ يتخوف الراغبون بالاستثمار أو العمل في هذه القطاعات أيضًا من العقوبات التي قد تطالهم، كون البلد خاضعًا لعدد من العقوبات.
محدود على النظام.. لماذا؟
أنهت العقوبات المفروضة على النظام ورجال الأعمال المقربين منه، النشاط الاقتصادي الفعلي والرسمي الدولي لهما، لكنها لم تؤثر عمليًا في حجم تجارتهما وأعمالهما الداخلية، بل على العكس ربما قد زادتهما ثراء.
اقرأ أيضًا: عام على قانون “قيصر“.. أثرياء يزدادون ثراء في سوريا
يرى الاستشاري وائل العلواني، أنه عند الحديث عن أثر العقوبات على النظام السوري، فنحن هنا نتحدث عن نظام مدرَج منذ زمن على قوائم العقوبات، وضالع بدعم الإرهاب، لذا فهو يملك من الآليات التي صممها لتفادي هذه العقوبات طوال تلك السنوات، ما يجعل من أثرها محدودًا فعلًا.
وأضاف العلواني أن الآليات التي يتبعها النظام وأصحاب النفوذ والسلطة، تستخدم الثغرات الموجودة في الأدوات المشروعة بالقانون المالي الدولي لتخدم مصالحها، كالشركات الوهمية، والقشرية، والجوفاء، وشركات الواجهة، والشركات التي تتعاون مع محامين ومحاسبين قانونيين مخادعين قادرين على تزوير الكثير من الأوراق الرسمية.
من جهته، أوضح أستاذ القانون الدولي في كلية “واشنطن” بالجامعة “الأمريكية” ضياء الرويشدي لعنب بلدي، أنه من الناحية الإجرائية، يمكن اعتبار قانون “قيصر” بمنزلة تفويض من “الكونجرس” الأمريكي للسلطة التنفيذية الأمريكية، بأن تقوم بتقييم الوضع في سوريا، وأن تجمع الأدلة حول انتهاكات القانون، وتفرض العقوبات على مرتكبيها.
وهذه الأدلة في غالب الأمر تكون أكثر وفرة فيما يتعلق بالجهات والشخصيات العامة، بمن فيها الشخصيات السياسية والعسكرية المتنفذة، بحسب الرويشدي.
العقوبات لا تسقط أنظمة
بحسب تجارب تاريخية سابقة للعديد من الدول كفنزويلا وإيران وكوريا الشمالية، فإن العقوبات على الأنظمة لا تسقطها، بل تستهدف تصحيح سلوك النظام، بحسب ما أكده الخبير في الجرائم المالية وائل العلواني.
وعلى الرغم من الحديث المتكرر عن جدوى قانون “قيصر” في إغلاق الأبواب بوجه النظام ومعاقبته، فإنه لا يستهدف إلا 13 فردًا وكيانًا فقط.
وللحديث عن آلية يمكن أن توجه العقوبات ليكون أثرها بشكل أكبر على النظام السوري، يرى العلواني أن كون النظام قادرًا على الالتفاف على العقوبات، يجب معرفة الطرق الملتوية التي يسلكها واللحاق بها لمعاقبتها أيضًا، وهذا ما لا يحدث.
وأوضح العلواني أنه لزيادة تأثر النظام بالعقوبات، وتقليل تأثر المدنيين بها، يجب توجه الإدارة الأمريكية إلى إلغاء أنواع من العقوبات على القطاعات، والتي تؤثر بشكل رئيس على السوريين، والانطلاق بفرض عقوبات إضافية على نطاق واسع وضبط العمل بها وتفعيلها حرفيًا، دون غض النظر عن أي جزئية منها كعقوبات القوائم التي تستهدف أشخاصًا، والثانوية التي تستهدف أشخاصًا وكيانات.
من جهته، أكد أستاذ القانون الدولي ضياء الرويشدي، أن العقوبات الاقتصادية لم ولن تسقط نظامًا سياسيًا، إلا أنها تسهم في تقويض سلطته بدرجات متفاوتة.
وأضاف الرويشدي أن للعقوبات الاقتصادية أثرًا سلبيًا على المواطنين العاديين، ويتحدد مقدار هذا الأثر تبعًا لتصميم وإنفاذ العقوبات، فعندما تكون العقوبات عمومية، فإن أثرها يكون أشد على المواطنين، ولذا يجب وضع هذا الأمر بالحسبان في مرحلة تحديد وإنفاذ العقوبات، تبعًا لسياق وظروف كل دولة.
وأوضح الرويشدي أن الدول والأشخاص السياسيين لديهم شبكات ومفاتيح تساعدهم على الالتفاف على العقوبات، وقد يكون من الصعب في بعض الأوقات معرفة هذه الشبكات وطرق عملها، ما يترك متنفسًا للشخصيات العامة والدول للحد من أثر العقوبات الاقتصادية بخلاف المواطن العادي.
وعليه، يرى الرويشدي أن ما يهم في موضوع فرض العقوبات الاقتصادية، هو تحديد هدفها ونطاقها، وأساليب إنفاذها بشكل دقيق، ومحاولة التخفيف من آثارها السلبية على المواطنين في حال كانت السبيل الوحيد لدفع أي عملية سياسية.
أمريكا تتراخى بعقوبات “قيصر”
في 8 من حزيران الحالي، أجرى مجلس الشيوخ الأمريكي جلسة استماع حول سوريا ترأسها رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، السيناتور من الحزب “الديمقراطي” بوب مينينديز، بعنوان “المضي قدمًا في السياسة الأمريكية السورية.. الاستراتيجية والمساءلة”.
وتساءل مينينديز خلال افتتاحية الجلسة، عن استراتيجية إدارة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، في سوريا، معتبرًا أن الصراع المجمّد في سوريا يؤدي إلى معضلات إنسانية وسياسية وأمنية هائلة وسط تراخٍ من القيادة الأمريكية، وفق تعبيره.
بدوره، قال السيناتور الأمريكي من الحزب “الجمهوري” جيم ريتش، إن سياسة العزلة الاقتصادية والدبلوماسية التي فرضتها الولايات المتحدة على سوريا لفرض حل سياسي بدأت بالانهيار، مبديًا قلقه من أن الإدارة قد قبلت بحكم الأسد باعتباره نتيجة مفروضة، “والأسوأ من ذلك، أخشى أن هذه الإدارة توافق ضمنيًا على التواصل مع النظام”، حسب تعبيره.
وأضاف ريتش أن “تطبيق عقوبات (قيصر) كان غائبًا، ودعم الإدارة لصفقات الطاقة عبر سوريا إلى لبنان من المحتمل أن ينتهك قانون (قيصر). علاوة على ذلك، أنا قلق للغاية بشأن تمويل الإدارة لما يسمى بمشاريع (التعافي المبكر) في المناطق التي يسيطر عليها النظام، هذه الأنشطة تطمس الخط ضد إعادة الإعمار التي يحظرها (قيصر)، وتفتح باب التطبيع مع الأسد”.
وفسر العلواني تحفّظ الإدارة الأمريكية بإطلاق المزيد من العقوبات الثانوية (العقوبات التي تفرض بموجب قانون “قيصر”)، بأنها تقر من “الكونجرس” الأمريكي، ولفرضها أو إزالتها تحتاج إلى موافقته عليها.
بينما تصدر العقوبات الأمريكية الأخرى بقرارات تنفيذية فرضها وإزالتها يحتاج إلى توقيع من الرئيس الأمريكي فقط، وهو الأمر الذي يعتبر أسهل بالنسبة لها.
بينما يرى أستاذ القانون الدولي ضياء الرويشدي أن الإدارة الأمريكية تتعامل مع الملف السوري دون استراتيجية واضحة، وأن هذا الملف ليس من أولويات الإدارة الأمريكية، فهي تراه ورقة تفاوضية، ولربما الهدف الواضح الوحيد للإدارة الأمريكية هو ضمان عدم ظهور تنظيم “الدولة الإسلامية” مجددًا، بحسب تعبيره.
جنى العيسى _ عنب بلدي