يتطلّب عمل بسمة (28 عامًا) التواصل الدائم مع المصادر الأولية من أجل الحصول على المعلومات والأخبار، فهي صحفية بمؤسسة إعلامية محلية في مدينة الرقة شمال شرقي سوريا، إلا أنها تتعرض بشكل دوري لانتهاك خصوصيتها، كفتاة تتجنب الخوض في موضوعات جانبية ليست لها علاقة بسياق الأسئلة والقضايا موضوع التغطية الإعلامية.
“عدم احترام خصوصية الآخرين لا يؤدي فقط لمضايقتهم وإغضابهم، بل يؤدي لتعميق مخاوفهم بشأن الشخص الذي يفعل ذلك”، وفق ما قالته بسمة لعنب بلدي، مضيفة أن “طبيعة العمل الإعلامي تتطلّب التواصل بشكل مستمر مع المصادر، لكن غالبًا ما تعرّض آلية هذا العمل الإعلاميات للمضايقات”.
في جميع المجتمعات تنتشر الحوادث المتعلقة بظاهرة التحرش اللفظي أو الجسدي بالإعلاميات، وتحاول المؤسسات المعنية عادة وضع ضوابط قانونية صارمة تحمي بها العاملات في قطاع الإعلام، إلا أن هذه الضوابط تغيب في مناطق سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد).
ترى إعلاميات من مدينة الرقة تحدثن إلى عنب بلدي، أن معظم العاملات بالمؤسسات الإعلامية داخل المدينة، يتعرضن للمضايقات من قبل الأشخاص العاديين والمسؤولين في أثناء أداء عملهن الإعلامي، وقد تصل تلك المضايقات إلى حد التحرش الجسدي أو اللفظي، دون وجود قوانين جدية تحميهن من تلك السلوكيات.
سلوكيات خارج السياق
كشفت بسمة، التي تحفظت على ذكر اسمها الكامل لأسباب أمنية ومجتمعية، عن تعرضها في عدة مواقف لما وصفته بـ”التحرش الإلكتروني عن طريق تطبيقات المراسلة”، فبعد أول مراسلة مع أحد المصادر، حاول التقرب منها من خلال سلوكيات بعيدة عن سياق الموضوع محل النقاش، “مثل إرسال الأغاني أو ملصقات تحمل طابع الغزل”، لينتهي الأمر بطلب الشخص إمكانية التعرف إلى الإعلامية والخوض في تفاصيل حياتها الخاصة.
بينما اضطرت عائشة (32 عامًا)، وهي صحفية سورية مقيمة في الرقة، إلى إخفاء تطبيق “واتساب” من على لائحة العرض الخاصة بهاتفها المحمول، بعد أن اطلع ولي أمرها على هاتفها ليجد مراسلات لها مع أشخاص معظمهم من الذكور.
“أحيانًا تصلني رسائل في أوقات متأخرة من الليل من قبل مصادر ذكور، هذا الأمر لم يتفهمه والدي، ما أدخلني بنقاشات حادة معه عن طبيعة عملي”، كما تسبب بـ”مشكلات مع العائلة”، وفق ما ذكرته عائشة، التي تحفظت على ذكر اسمها الكامل لأسباب اجتماعية.
“طبيعة العمل الإعلامي تتطلّب التواصل مع أشخاص بشكل مستمر، وهو الأمر الذي رفضته عائلتي، ليطلب والدي مني البحث عن مهنة أخرى أعمل بها غير الإعلام إن لم أستطع وضع حد للمراسلات مع الأشخاص الغرباء”، أضافت عائشة.
في مدينة الرقة، تعمل عدة وسائل إعلامية، بعضها محلي وبعضها الآخر يعتبر بمنزلة فرع محلي لوسيلة تشمل معظم مناطق شمال شرقي سوريا، إلى جانب وجود مكاتب ودوائر إعلامية في المؤسسات التابعة لـ”الإدارة الذاتية” و”مجلس الرقة المدني”.
وتعمل الصحفيات إلى جانب الصحفيين في معظم الوسائل الإعلامية، وتنص الأنظمة الداخلية لبعض المؤسسات الإعلامية على ضرورة وجود عدد متساوٍ من كلا الجنسين ضمن نطاق العمل في المؤسسة، للمحافظة على التنوع الجندري في العمل الإعلامي هناك.
وفي عام 2012، أُسّس “اتحاد الإعلام الحر” في المناطق التي سيطرت عليها وحدات “حماية الشعب” (الكردية) حينها، لتسيير عمل الوسائل الإعلامية التي بدأت بالعمل بعد تراجع سيطرة قوات النظام السوري في هذه المناطق.
وبحسب النظام الداخلي للاتحاد، فهو مؤسسة نقابية مهنية مستقلة تعمل من أجل الحفاظ على الحقوق المعنوية والمادية للإعلاميين وترسيخ حرية الرأي والتعبير، وتلتزم بالقوانين المعمول بها في شمال شرقي سوريا وفق قيم الحرية والعدالة والمساواة بين الجنسين.
وعلى الرغم من وجود القوانين والأنظمة التي تحاول تنظيم قطاع الإعلام وحماية العاملين فيه، فإن ذلك لم يمنع وجود عدة حالات من المضايقات التي تأخذ طابع التحرش بحق العاملات في المؤسسة الإعلامية، إذ لا يوجد نظام فعال لتلقي الشكاوى من هذا النوع.
عرّفت اتفاقية منظمة العمل الدولية بشأن القضاء على العنف والتحرش في العمل لعام 2019 التحرش بأنه: “مجموعة السلوكيات والممارسات غير المقبولة أو التهديدات المرتبطة بها، سواء حدثت مرة واحدة أم تكررت، تهدف أو تؤدي إلى إلحاق ضرر جسدي أو نفسي أو جنسي أو اقتصادي، وتشمل التحرش على أساس النوع الاجتماعي”. |
بيئة أمنة
عضو في “تجمع نساء زنوبيا” بمدينة الرقة، قالت لعنب بلدي، إن من حق النساء الحصول على عمل ضمن بيئة أمنة، وهو ما تكفله قوانين “الإدارة الذاتية” العاملة في المنطقة بخصوص عمل المرأة في المؤسسات، سواء الإعلامية أو غيرها.
وأضافت العضو، التي تحفظت على ذكر اسمها كونها لا تملك تصريحًا بالتحدث إلى الإعلام، أن من حق أي عاملة في مؤسسات “الإدارة الذاتية” أو حتى تلك التي خارج نطاق “الإدارة”، تقديم شكوى رسمية، حال تعرضها للتحرش أو المضايقة من أي شخص، وسيقوم “تجمع نساء زنوبيا” بإحالة الشكوى للأجهزة الأمنية والقانونية المختصة لإجراء اللازم أصولًا.
وأشارت عضو “تجمع نساء زنوبيا” إلى أن أغلب المضايقات تحدث كون “المجتمع لا يزال ينظر إلى عمل المرأة نظرة سلبية، ولحد الآن الكثير من أفراد المجتمع لا يرون أن من حق النساء العمل، ويجب عدم مضايقتهن أو التحرش بهن”.
وضمن تقرير حمل عنوان “الحفاظ على الحدود مع المصادر والزملاء والمشرفين”، الصادر في كانون الأول 2017، استنادًا إلى مقابلات مع صحفيات ومصادر أخرى، قدم مركز “دارت للصحافة والصدمة” نصائح للصحفيات للوقاية من التحرش في أثناء ممارستهن العمل الصحفي، وتعليمات في حال وقوع حادثة تحرش من قبل مصدر أو زميل أو رئيس في العمل.
ويرى التقرير أنه من أجل تقليل فرص المضايقات من المصادر الصحفية في أثناء العمل، يجب على الصحفيات اختيار مكان عام “آمن” للاجتماعات عند الالتقاء بمصدر لا يعرفنه مسبقًا، لتجنب المواقف التي قد يفسرها المصدر على أنها تقع خارج حدود المهنية، من حيث الموقع أو التوقيت.
وينصح التقرير الصحفيات بتجنب الخلوة مع أي شخص لا يعرفنه أو يثقن به، ما يعني تجنب الصحفية دعوة المصدر إلى غرفته الفندقية، أو الذهاب إلى أماكن المصدر الخاصة، والطلب من زميل أو صديق مرافقتها كمصوّر أو مدوّن ملاحظات، في حال لزم الأمر، لأن وجود صحفي آخر في المقابلة يوضح أنها مقابلة عمل.
وبحسب التقرير، فإنه يجب على الصحفيات، في حال ذهابهن للتغطية الصحفية في مكان بعيد أو خاص، تنبيه زملائهن وإعلامهم بمكان التغطية، والأشخاص الذين ستتم مقابلتهم والوقت المتوقع للعودة.
القانون السوري لا يتعامل مع مفردة “التحرش”
غالبًا ما تكون إنتاجية الموظف مرتبطة بمدى ارتياحه لبيئة العمل التي يوجد فيها بشكل يومي (خمسة أيام في الأسبوع غالبًا)، وبيئة العمل السليمة تتطلّب وجود عناصر أساسية لا يجب أن تغفل إدارة المؤسسات الإعلامية عنها في هذا المجال.
وعلى الرغم من خطورة فعل التحرش داخل بيئة العمل، فإن التشريعات السورية لا تزال خالية من أي مواد قانونية تحظره أو تعاقب عليه، ما يجعل الموظفين معرضين للتحرش من دون حماية فعلية، وانعدام الحق في التمتع ببيئة عمل آمنة خالية من أي تحرش جسدي أو لفظي.
ولم يخصص المشرّع السوري أي قانون خاص لمكافحة التحرش على الرغم من التزاماته الدولية في هذا الإطار، إذ نص التعليق العام رقم “23” الصادر عام 2016 من اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التابعة للأمم المتحدة، المتعلق بالحق في التمتع بشروط عمل عادلة ومرضية، على أنه يقع على عاتق الدول الأطراف (من ضمنها سوريا) التزام أساسي بضمان الوفاء، على أقل تقدير، بالمستويات الأساسية الدنيا من هذا الحق، ويوضح التعليق أنه يترتب على الدول في هذا السياق الالتزام بتضمين قوانينها “تعريفًا للمضايقة في مكان العمل، يشمل التحرش الجنسي”.
وبذلك يعتبر المشرّع السوري مقصّرًا بمناهضة التحرش في بيئة العمل التي تسعى لأجلها المنظمات الدولية المناصرة للمرأة.
ولا يتضمن القانون السوري جرمًا اسمه “تحرش”، بل هنالك أسماء أخرى وأفعال أخرى شبيهة بالتحرش، إذ نص قانون العقوبات السوري على “الفعل المنافي للحشمة” في المادة “493”، وهو كل فعل ضد آخر ذكرًا كان أم أنثى يلحق به عارًا أو يؤذيه في عفته (ملامسة الأعضاء، وملامسة الجسد)، وهو لا يحتاج إلى تقرير طبي، كما يشترط عدم وجود رضا أو وجود إكراه أو تهديد أو استغلال لممارسة “الفعل المنافي للحشمة”.
ويعاقب القانون مرتكب “الفعل المنافي للحشمة” بالأشغال الشاقة مدة لا تقل عن 12 عامًا، ويكون الحد الأدنى للعقوبة 18 عامًا إذا ارتكب الجرم ضد قاصر لا يتجاوز 15 عامًا.
وفي مادته رقم “504”، يعاقب المشرّع كل من أغوى فتاة بوعد الزواج ففض بكارتها بالحبس حتى خمسة أعوام، وبغرامة أقصاها 300 ليرة سورية أو بإحدى العقوبتين، إذا كان الفعل لا يستوجب عقابًا أشد.
وتعاقب المادة “506” من نفس القانون الفعل المخل بالحياء، الذي يشمل كل فعل يورث الخجل ويحرص الفاعل على ارتكابه بالسر، وتكون عقوبة هذا الجرم الحبس التكديري ثلاثة أيام، أو بغرامة مالية لا تزيد على 75 ليرة أو بالعقوبتين معًا.
ويعاقب قانون العقوبات السوري في مواد متفرقة الأفعال التي تتعرض للآداب والأخلاق العامة، دون إطلاق عبارة تحرش على أي من تلك الأفعال.
المصدر: عنب بلدي