سنة 2010، زاد عدد سكّان “حرستا” الناحية التابعة إدارياً لمنطقة دوما التابعة لمحافظة “ريف دمشق” عن مئتي ألف “نسمة”، بل إنّ بعض المصادر قدّرت عددهم مع سكّان ضواحيها بنحو 300,000، رقم لم تعرفه مدينة “إدلب” في ذلك الوقت وقبله أبداً، فلم يزد عدد سكّانها -وهي ليست ناحية ولا منطقة بل مركز محافظة- عن 150,000 نسمة في الإحصاء الرسمي سنة 2010، وسبب المقارنة أو المقاربة توضيح كم “مدينة إدلب” مدينة صغيرة، وكذا الإشارة إلى أنّ مراسيم وقوانين التنظيمات الإدارية وتشريعاتها المختلفة في “سوريا” لم تعتمد معيار العدد أو الكتلة البشرية في التجمّعات السكّانية من مدن وبلدات وقرى لتقسيمها إلى مراكز محافظات ومراكز مناطق ومراكز نواحٍ، بل اعتمدت على التقسيمات الجغرافية الإدارية بل والطائفية أيضاً المستوردة أو المُنبثقة من تقسيمات فرنسا إبّان الانتداب.
قسّمت فرنسا “سوريا الحالية” -أي دون لبنان- بدايةً إلى خمس دويلات: دمشق، حلب، الإسكندرون المستقلّ، ودولتي “العلويين” و”الدروز”، ثمّ بدأت -عبر سنوات الانتداب وما بعده- تنبثق عن كل دويلة منها كيانات إدارية أُخرى أصبح اسمها “محافظات”، صار عددها أربع عشرة المعروفة، وأراد بشّار أسد مطلع 2013 جعلها سبع عشرة محافظة، بإضافة محافظات “ريف حلب” و”تدمر” و”القامشلي”.
لم يكن “جمال عبد الناصر” أو غيره من زعماء وزاعمي الوحدة السورية المصرية أصحاب قرار فصل قضاء إدلب عن محافظة حلب واعتبار الأولى محافظةً بعينها كما يُشاع، فلقد صدر مرسوم إحداث محافظة إدلب سنة 1957 قبل الوحدة مع مصر، لكنّه لم يُطبّق حتّى 1960، فأصبحت رسمياً بموجبه محافظةً وحدها.
تُعدّ مدينة إدلب كمركز محافظة وبمساحة تقدّر بـنحو 20-25 كم2 من أصغر مدن مراكز المحافظات في سوريا مساحةً وسكّاناً وعمراناً، مثلها مثل الرقّة والحسكة وطرطوس والسويداء ودرعا، وحتّى الآن لم تزد كثيراً مساحات هذه المدن جميعها، ظلّت متقاربةً، فتغيّرت أعداد السكّان في كلّ منها زيادةً ونقصاناً بمعدّلات متفاوتة، غير أنّ عدد سكّان “مدينة إدلب” قد تضاعف مرّات بعد موجات النزوح السوري الداخلي الأخيرة إليها منذ أواخر 2016، من محافظات حلب وحمص وحماة وريف دمشق على وجه الخصوص.
لا يوجد إحصاءات رسمية حول عدد سكّان مدينة إدلب ولا محافظة إدلب حالياً، لكن أقلّ التقديرات تُشير إلى أنّ نصف مليون سوري يقطنونها الآن، وأكثر من ثلاثة ملايين في باقي مناطق المحافظة، ويمكن تقدير أنّ مليوني سوري قد نزحوا إلى محافظة إدلب برمّتها، واستقرّ منهم في مركزها أكثر من ثلاثمئة ألف، أي أنّ عدد السكّان قد تضاعف في مدينة إدلب أكثر من ثلاث مرّات، وهذا مع اعتبار أنّ من كانوا يسكنونها أصلاً لم يعودوا مئة وخمسين ألفاً كما كانوا حتّى 2010، فلقد نزح الكثير منهم إلى محافظات أخرى، كما لجأ كثيرون إلى تركيا وأوروبا.
عرض بلا طلب!
سنة 2006 أجرى فرع “المخابرات العامّة” في إدلب والمعروف بأمن الدولة دراسةً عن الملكيات العقارية في المدينة أو مسحاً عقارياً لها أو شيئاً من هذا القبيل، وخلصت الدراسة إلى أنّ نحو 30% من البيوت أو المساكن كانت شاغرة، وإن لم تكن جاهزة أو صالحة للسكن فوراً، وبالفعل فلقد كانت حركة البناء أو الإعمار نشطةً جدّاً في ذلك الوقت، وارتفعت أسعار المنازل والمحالّ التجارية وغيرها من العقارات بشكل غير منطقي، وفي الحقيقة كان ذلك عرضاً بلا طلب، أدّى إلى نشوء “تضخّم عقاري”، بيوت كثيرة معمّرة لا يسكنها أحد ولا يشريها أحد.
ما أريد قوله أنّ مدينة إدلب “نظرياً” ربّما كانت بشكل ما شبه قابلة لاستقبال خمسين أو سبعين ألف نسمة جديدة وبالتدريج، لكنّها استقبلت أضعاف هذا الرقم في فترات مختلفة إنّما بأعداد كبيرة منذ بدء حركات النزوح إليها من المحافظات المذكورة، كذلك من ريف محافظة إدلب أيضاً، خاصّةً بعد تهجير أهالي المدن والقرى الجنوبية كالمعرّة وخان شيخون وسراقب، ومن مدن وقرى جبل الزاوية وغيرها.
من جانب آخر، فإنّ مشكلة الاستيعاب السكّاني الجديد للنازحين أو الوافدين إلى أيّة مدينة، لا تُحلّ بوجود أعداد كافية من المساكن على اختلاف أشكالها، بل في توافر البُنى التحتية والمرافق والخدمات اللازمة والمساحات الملائمة لمعيشة طبيعية، ومع 500,000 نسمة يعيشون في مساحة 23 كم2، فهذا يعني وجود أكثر من 21 ألف نسمة في الكيلومتر المربّع الواحد، ما يُقارب كثافة الفلسطينيين في مدينة غزّة التي بلغت 26 ألفاً في الكيلومتر المربّع، وهو من أعلى أرقام الكثافة السكّانية عالمياً.
نتائج كارثية!
الآن، مع كلّ آثار هذه النسبة المرتفعة من الكثافة السكّانية في مدينة إدلب، وليس أوّلها الازدحام المروري والتلوّث البيئي والبصري والسمعي، مع فوضى البناء والإنشاءات العشوائية، وليس آخرها التضخّم والبطالة والفقر لعدم وجود فرص عمل حقيقية وكافية بسبب غياب القطاعات الإنتاجية والخدمية القادرة والفعّالة، ومع ارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية الأساسية، وارتفاع أجور المساكن والمحالّ، وشحّ الدعم الدولي حدّ النفاد، وانقطاع سُبل التصدير وقطع المعابر الداخلية منها والتركية على الناس، ومع غياب كامل لأيّ حقّ أو قدرة على محاسبة أو مساءلة “سلطة الأمر الواقع” التي تُسيطر بلا أدنى درجة من الكفاءة والشفافية على أكثر من ستّة آلاف كيلومتر مربّع في محافظة يعيش فيها أكثر من ثلاثة ملايين سوري، وعلى عشرين كيلومتراً مربّعاً في مدينة يعيش فيها خمسمئة ألف أيضاً، فإنّ نتائج استمرار هذي الحال ستكون كارثيةً، لا ريب.
بالطبع لن توجد حلول قريبة أو متوفّرة عندما نتحدّث عن قضايا تنمية واستقرار مجتمعي، أو عن المشكلات السكّانية والموارد وسياسات التنظيم والإدارة والأمن، عدا عن المشكلات الأساسية في الصحّة والتعليم، وسيبقى مصير “إدلب” وأهلها وأهلهم كمصير كلّ المحافظات والحواضر السورية، لا يمكن التكهّن به إلّا بعد فرض حلّ نهائي شامل تسقط فيه كلّ الأنظمة والكيانات الغاشمة المستقوية التي مُكِّنت من السوريين، وهذا بالتأكيد لن يحصل قريباً!.
محمد صخر بعث _ أورينت نت