يهدد نقص التمويل حياة المدنيين في أجزاء من سوريا، ويكون أشد وطأة على النساء في شمال غرب سوريا، فالعجز هناك “في كل شيء”، ولا يقتصر ذلك على توفر الأدوية والمستلزمات فقط، وإنما “الكوادر المؤهلة أيضاً”، كما قال الطبيب أسامة لـ”سوريا على طول”، الذي يدير الأنشطة الطبية في شمال غرب سوريا الخاصة بمنظمة أطباء بلا حدود، وهي منظمة إنسانية دولية غير حكومية.
يستذكر أسامة واحدة من القصص الأخيرة التي كان شاهداً عليها، تعود لشابة مصابة بفيروس كوفيد-19، وفي آخر مراحل حملها، استدعت حالتها “الإدخال إلى وحدة العناية المركزة، وولادة قيصرية [جراحية] لإنقاذ جنينها”، لكن نقلها من وحدة العناية المركزية إلى مستشفى آخر لإجراء العملية القيصرية “يهدد حياتها”، وقد كان ذلك “للأسف ماتت المريضة”، وفقاً له.
مأساة كان يمكن تجاوزها لو كان أحد المستشفيين مجهزاً بوحدة علاج مركزية، ومزوداً بالتجهيزات الضرورية لإجراء عملية قيصرية، وهي عملية شائعة، تمثل واحدة من أصل خمس ولادات عالمياً، بحسب منظمة الصحة العالمية.
لسوء الحظ، تفتقد حالياً غالبية المنشآت الصحية في شمال غرب سوريا للتمويل الكافي والتجهيزات والكوادر. تتحمل النساء العبء الأكبر لهذه الأزمة الصحية لأسباب اقتصادية واجتماعية وثقافية.
انخفاض التمويل
بعد أحد عشر عاماً على الحرب السوري، تعرض النظام الصحي في سوريا للتدمير، وخسرت البلاد كوادرها الطبية، بعد أن كان أحد أفضل الأنظمة في المنطقة.
في السنوات الأخيرة، تعرضت المستشفيات السورية وفرق الإسعافات الأولية للاستهداف الممنهج، ففي الفترة بين آذار/ مارس 2011 و آذار/ مارس 2022، قتل نحو 942 شخصاً من الكوادر الطبية في سوريا، وفقاً لأرقام منظمة أطباء بلا حدود، التي وثقت ما يزيد عن 600 هجوم استهدف 400 منشأة صحية خلال الفترة ذاتها، منها 542 هجوماً على يد النظام السوري وحليفته روسيا.
وهاجر عدد من العاملين والعاملات في المجال الطبي، بعد التضييق عليهم من جميع الجهات في سوريا. وحتى آذار/ مارس 2021 بلغت نسبة الكوادر الصحية، التي غادرت سوريا، 70%، تاركين طبيباً واحداً لكل 10 آلاف سوري.
“بعد أكثر من عقد على الصراع، بات النظام الصحي [في شمال غرب سوريا] معتمداً كلياً على تمويل المنظمات الدولية غير الحكومية”، بحسب أسامة. وصارت المساعدات الدولية شريان الحياة، لا سيما في شمال غربي البلاد، وهي آخر مناطق سيطرة المعارضة، ويقطنها 4.4 مليون نسمة، منهم 2.8 مهجّرين بسبب الحرب.
وبدعم من المانحين الدوليين، حلّت المنظمات الطبية الدولية وشركاؤها المحليون كبديل عن النظام الصحي العام، إلا أنّ التدفق المالي غير المستقر شارف على النفاد. إذ حذرت منظمة العفو الدولية، التي تُعنى بحقوق الإنسان، في وقت سابق هذا الشهر، من “أزمة صحية حادة” في الشمال الغربي، حيث انخفض تمويل قطاع الصحة أكثر من 40% خلال الأشهر العشرة الماضية.
ويرجع جزء من انقطاع التمويل إلى تراجع اهتمام الجهات المانحة بسوريا، وهو توجه يعترف به المانحون أنفسهم. “أعلم أنّ هناك نوع من الإجهاد، وكيف لا! بعد إحدى عشر عاماً من الصراع”، بحسب ما ذكر الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، جوزيب بوريل، لوزراء الاتحاد الأوروبي، في 9 أيار/ مايو، يوم افتتاح مؤتمر بروكسل السادس، وهو حدث سنوي تعلن فيه الدول الأوروبية عن تعهداتها المالية لأجل سوريا.
وأضاف بوريل: “يبدو أنّ الرأي العالمي العام غير قادر على التعامل مع أكثر من أزمةٍ واحدة في آنٍ واحد. أوكرانيا الآن تحتل العناوين الرئيسية، ولكن لا تتخلوا عن سوريا”، معبراً بذلك عن مخاوف الجهات الإنسانية الفاعلة، التي حذرت من أّنّ غزو روسيا لأوكرانيا قد يصرف الانتباه عن الأزمات الأخرى، ويحوّل مسار التمويل الإنساني الأساسي.
في اختتام مؤتمر بروكسل السادس، الذي صادف 10 أيار/ مايو الحالي، تعهد المانحون بتقديم 4.3 مليار دولار لعام 2022، بالإضافة إلى 2 مليار دولار تم التعهد بها في العام الماضي “مخصصة لعام 2022 وما بعده”. ويتماشى هذا التمويل مع المبالغ المخصصة لعام 2021، التي بلغت 6.4 مليار دولار، إلا أنّها دون المبلغ المطلوب للأمم المتحدة، البالغ 10.5 مليار دولار.
ومن المتوقع أن يكون لهذا التمويل تأثيراً محدوداً، في ظل ازدياد الاحتياجات الإنسانية والارتفاع الحاد في أسعار السلع الغذائية، اللذين تفاقما نتيجة الحرب في أوكرانيا. اضطر برنامج الغذاء العالمي، التابع للأمم المتحدة، في وقت سابق من هذا الشهر، إلى خفض المساعدات الغذائية المقدمة للمنطقة نتيجة تخفيضات الميزانية.
ولا تنحصر المسألة بانقطاع التمويل فحسب، وإنما بمصير آلية المساعدات عبر الحدود إلى سوريا، من باب الهوى، وهو أكبر معبر إنساني في شمالي غربي سوريا، حيث يتم التصويت عليها في تموز/ يوليو المقبل، ففي حال تمديد العمل بهذه الآلية لسنة قادمة، بعد التصويت عليها في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، الذي يضم روسيا، يمكن لقوافل الأمم المتحدة استخدام هذا المعبر فقط. لكن إذا استخدمت روسيا حق النقض (الفيتو) ضد القرار وأغلق المعبر، ستتأثر جميع النشاطات الإنسانية في المنطقة بشدة.
نقص حاد وتكاليف خيالية
مقابل انخفاض التمويل، تتزايد الاحتياجات في شمال غرب سوريا، الذي يعاني من وطأة أزمة إنسانية، فاقمتها جائحة كوفيد-19، وحتى الآن لا تتجاوز نسبة الذين تلقوا اللقاح ضد فيروس كورونا 5%.
واشتكت جميع النساء اللاتي تحدثن إلى “سوريا على طول” من الارتفاع الباهظ في تكاليف الرعاية الصحية، التي “تضاعفت مرتين” مقارنة بالسنة الماضية، بحسب قولهن. “وسطياً، تساوي كشفية الطبيب أجرة عامل ليوم كامل”، وفقاً لفاطمة الشحود، ممرضة في مستشفى بإدلب، مشيرة إلى أن “تكلفة إجراء فحص [في مستشفى خاص] لا تقل عن 40 ليرة تركية”، أي ما يعادل 2.5 دولار أميركي بحسب سعر الصرف الحالي، البالغ 15.92 ليرة للدولار.
أيضاً “ارتفعت أسعار الأدوية والمعدات وجميع المستلزمات الطبية، والمواد غير الطبية كالغذاء والوقود والكهرباء، أضعافاً مضاعفة في العام الماضي وفي عام 2022″، وفقاً لأسامة. إلى حد كبير كان لليرة التركية دوراً في ارتفاع الأسعار، حيث فقدت 44% من قيمتها في عام 2021، ما أدى إلى ارتفاع أسعار المنتجات المستوردة في شمال غرب سوريا، كون تلك المنطقة الحدودية تتعامل بالليرة التركية بدلاً من الليرة السورية التي انخفضت قيمتها بشدة خلال الحرب.
ومن أجل إدارة التكاليف المتزايدة والنقص في الميزانية، اضطرت المستشفيات إلى تقليص بعض خدماتها، وتقنين الأدوية التي تقدمها مجاناً. ذكر مسؤولو الصحة في محافظة إدلب أنّ عشر مستشفيات من أصل خمسين، من بينها ستة مستشفيات طب نسائي وأطفال فقدت التمويل وأُغلقت في 2022، ومن المتوقع أن تغلق مستشفيات أخرى قريباً.
“حيثما أعيش، يبعد أقرب مركز صحي أو مستشفى يقدم خدمات صحية نسائية مسافة 20 كيلومتراً”، قالت زبيدة لـ”سوريا على طول”، وهي قابلة تعمل مع أطباء بلا حدود. ندرة الأطباء مسألة تعاني منها جميع المستشفيات الخاصة والعامة في المدن الكبرى كإدلب، وفي المناطق الريفية خصوصاً.
وتعاني النساء تحديداً من نقص الكوادر الطبية، نظراً لحاجتهن إلى عناية طبية متخصصة أثناء الحمل، لكن “من الصعب عموماً إيجاد كادر طبي مؤهل، ولاسيما من المتخصصين، وتحديداً طبيبات نسائية”، بحسب أسامة، مشيراً إلى أنه “لأسباب ثقافية، تطلب غالبية المريضات أن يخضعن للفحوصات الطبية على يد أنثى تزاول العمل الصحي”، وهذا “يزيد الأمر تعقيداً”.
ولسد هذه الثغرة، تسعى المنظمات غير الحكومية إلى تعويض نقص المختصين “بزيادة التركيز على تقديم الرعاية الصحية الأساسية بواسطة القابلات”، وفقاً لأسامة.
وشدّد أسامة على أن القابلات هنّ “حجر الأساس” في مسائل الصحة الجنسية والإنجابية والأمومة. حيث يتابعن الحوامل ويساعدنَهن، ويقمن بإجراء الولادات الطبيعية، ويقدّمن المشورة وخدمات تنظيم الأسرة، ويزيد دورهن في العديد من البلدان التي تجتاحها الأزمات، ومنهاسوريا.
“بدأت القابلات بتلقي تدريبات للتعامل مع حالات الحمل ذات الخطورة العالية”، وفق ما ذكرت زبيدة، مشيرة إلى أن العاملات في غرف الطوارئ “يتعين عليهن تقديم خدمات معينة، سواءً كان الطبيب موجوداً أو لم يكن”، وأوضحت أن “خبرة القابلات وكفاءتهنّ زادت عموماً، ومعظم المنظمات تسير في المنحى ذاته”.
أما بالنسبة لوصول النازحين في المخيمات العشوائية إلى خدمات الرعاية الصحية، فهو أشد صعوبة، كما قالت رشا، 25 عاماً، لـ”سوريا على طول”.
وأضافت رشا، التي تقيم في إدلب وتنحدر من مدينة حمص: “في المدن يمكنك إيجاد المستشفيات والقابلات والأطباء، لكن في المخيمات، تعاني النساء من وجود مستوصفات أو كادر طبي يقدم المساعدة”. بدورها تقدم عدة منظمات غير حكومية خدمات الرعاية الصحية الأولية عبر العيادات المتنقلة، وتحيل بعض المرضى إلى المستشفيات للحصول على رعاية متخصصة.
ونظراً إلى تكلفة العيادات الخاصة، يفضل معظم المرضى الاعتماد على الخدمات التي تقدمها المنظمات غير الحكومية، وهذا يتطلب أحياناً عبور مسافات طويلة للحصول على الرعاية، أي تكبد تكاليف ومخاطر إضافية في منطقة يتم قصفها بانتظام من قبل روسيا والنظام.
وغالباً ما تفضل النساء غير المصحوبات بذويهنّ تأجيل الحصول على الرعاية على متاعب السفر بمفردهنّ، ما قد يعرضهنّ لمخاطر صعبة. يستذكر أسامة حالة الصدمة التي بدت عليها امرأة الامرأة التي أدخلت مؤخراً إلى غرفة الطوارئ التي تديرها “أطباء بلا حدود”، بعد سفرها لأيام طلباً لعناية متخصصة هي بأمسّ الحاجة لها.
أعباء مضاعفة على النازحين
يشعر العاملون في المجال الصحي، شمال غرب سوريا، بالأسى حيال الأعباء النفسية التي فرضتها الحرب على النساء المريضات، لاسيما اللاتي اضطررن للنزوح، في ظل ارتفاع معدلات الزواج المبكر والحمل.
تعاني الكثير من النساء المُهجّرات، اللاتي يقمن غالباً في المخيمات العشوائية، من صعوبة تلقي العناية طويلة الأمد، كتلك التي تحتاجها النساء الحوامل خلال فترة الحمل، بسبب محدودية الخدمات الطبية ووسائل النقل هناك.
“سابقاً، كانت المرأة تراجع طبيب نسائي على دراية كاملة بملفها الطبي، لكنها اليوم لا تستطيع مراجعة ذات الطبيب، إما لأنها تهجّرت هي، أو لأن الطبيب رحل من البلد”. بحسب ما قالت نور محمد، (اسم مستعار)، 30 عاماً، المهجّرة من حماة.
كثيراً ما تتجاهل النساء الفحص الطبي الروتيني أو رعاية ما قبل الولادة، نتيجة مشقات الحياة اليومية. قالت زبيدة: لقد تراجع اهتمام النساء بصحتهن إلى حد كبير بسبب الحرب وصعوبات الحياة”، مشيرة إلى أن “النساء اللاتي اعتدن على تناول الفيتامينات المكملات خلال حملهن توقفن عنها، إذ لا طاقة لهنّ على تحمل تكاليفها”.
ومع أن النساء في جميع أنحاء العالم، وحتى في أوقات السلم، يعانين من الحصول على خدمات تنظيم الأسرة، من قبيل وسائل منع الحمل التي تتناسب مع أجسادهن واحتياجاتهن، إلا أن الأمر في سوريا أكثر تعقيداً في ظل النقص الناجم عن الحرب.
واشتكت النساء اللاتي تحدثن إلى “سوريا على طول” من عدم توفر بعض وسائل منع الحمل، أو سوء وعية المتوفر منها وارتفاع تكلفتها، ويعود ذلك إلى “إغلاق المعابر بين مناطق المعارضة ومناطق النظام، حيث توجد مصانع الأدوية”، وفقاً للشحود، التي كانت “تستخدم اللولب الرحمي لمنع الحمل، لكنه لم يكن متوفراً في بادئ الأمر، لذا استخدمت نوعاً آخر معروف بآثاره السلبية”.
لا أمل يلوح بالأفق بالنسبة لملايين النساء السوريات اللواتي يتكبدنَ باستمرار عناء الحصول على الرعاية الملائمة لصحتهنّ الجنسية والإنجابية ورحلة الأمومة في جميع مراحلها.
“قبل الحرب، كانت النساء بخير، فعوائلهنّ إلى جانبهنّ” قالت رشا، لكن “اليوم باتت المرأة تشغل دور الأم والأب والأخ والأخت، إضافة إلى تأمين احتياجات الأسرة”، وعليه فإن عجزهنّ عن تأمين احتياجاتهنّ الصحية الخاصة، وشراء الأدوية، إضافة إلى أعباء العمل المزدوج داخل المنزل وخارجه، يؤدي في نهاية المطاف إلى “تدمير صحتهنّ وحياتهنّ، ويتسبب بمشاكل نفسية متزايدة”.
* طلب كلاً من أسامة وزبيدة التعريف بهما من خلال ذكر الاسم الأول.
تم نشر هذا التقرير أصلاً باللغة الإنجليزية، وترجمته إلى العربية سلام الأمين.
ليز موفة _ سوريا على طول