على “النازحين السوريين” المقيمين في النبطية ملازمة بيوتهم ابتداء من مساء السبت في 14 الجاري الساعة السادسة مساء وحتى صباح الاثنين 16-5-2022 الساعة الثامنة صباحاً، وذلك كي لا يعكّروا صفو الانتخابات اللبنانية التي ستجرى يوم الغد. والنبطية ليست استثناء، فمنذ سنوات رأينا في بلديات أخرى لافتات تنذر السوريين بملازمة بيوتهم لسبب أو لآخر، وما كان صادماً في تلك اللافتات بات مقبولاً بحكم الاعتياد والتكرار.
على الضد من قرار محافظة النبطية حجْر السوريين، أجادل هنا كسوري بأن لي الحق في أنتخب غداً:ستبدو بمثابة سابقة أن ينتخب سوري، من خارج المجنّسين؟ هي كذلك، لكنها مسبوقة بلبنانيين اقترعوا في سوريا، وكان لاقتراعهم أكبر تأثير. هؤلاء هم الذين نوّهوا بتأثيرهم، وبأنهم هم الذين أنقذوا الأسد من السقوط. ليس صعباً في زمن توفر المعلومات العودة إلى تصريحاتهم التي تقول أن تدخل حزب الله في سوريا منع سقوط الأسد؛ في واحد منها نقلت صحيفة تايمز البريطانية عن قيادي في الحزب قوله أنه لولا الحزب لسقط الأسد في غضون ساعتين.
لقد اقترع مقاتلو الحزب في دمشق والقصير ويبرود وحلب… اقترعوا تقريباً على امتداد الأراضي السورية، وبدماء السوريين، كي يبقى الأسد. الأمين العام للحزب نفسه كان قد اصطحب ثلة من مقاتليه، قدّموا عرضاً عسكرياً في عزاء حافظ الأسد في القرداحة عام 2000، وكان ذلك بمثابة اقتراع فعلي مبكر للوريث، قبل أن يصبح “رسمياً” مرشحاً للرئاسة ويُدعى السوريون إلى اقترع صوري لا وزن له.
أوسع من دائرة الحزب وحلفائه، استهلكت الطبقة اللبنانية الحاكمة وقتاً طويلاً في الجدال حول ما سُمّي النأي بالنفس عما يحدث في سوريا منذ عام 2011، ليكون المعنى الحقيقي هو نأي خصوم الحزب بأنفسهم عن الحدث السوري، ونأيهم عن الخوض في ما تفعله قوات الحزب بالسوريين. هؤلاء كانوا شركاء، وأحياناً شركاء صغار، للحزب في الحكم والحكومة التي تمثّل لبنان الرسمي، ولم تتخذ يوماً موقفاً يعارض بلا لبس اقتراع الحزب “على طريقته” في سوريا. أفضل ما يمثّل هذه التركيبة، وأكثرها مأساوية، هو انفجار بيروت، وما أشيع عن شحنة نترات الأمونيوم والكميات المسحوبة منها قبل الانفجار.
من الوارد جداً أن يذكّر تدخل الحزب في سوريا بالوصاية الأسدية، على مبدأ “واحدة بواحدة”، لكن هذا التدخل هو وريث تلك الوصاية، وأصحابه يَعدون ببقاء الحدود مفتوحة خارج المتعارف عليه بين الدول. إنهم يتباهون بتحالفهم العابر للحدود، وبأن معركة بقائهم واحدة على طرفيها. بعبارة أخرى، هناك اقتراع أكثر فاعلية يقوم به كل حليف منهما لصالح الآخر، ما ينبغي بقليل من تكافؤ الفرص أن يعطي الحق لسوريين آخرين في الاقتراع، وليكن اقتراعاً بالصوت مقابل اقتراع بالرصاص والمدافع والبراميل، وهو ينبغي أن يكون حقاً أيضاً للبنانيين يقترعون في سوريا على غير منوال الحزب.
يعزز مما سبق ما يتداوله لبنانيون عن مرشحين للأسد في انتخابات الغد، بل إن وجود مرشحين للأسد لمناصب لبنانية عليا يُنظر اليه كأمر واقع، ولبنانية هؤلاء هي شأن شكلي بالمقارنة مع ولائهم. أي أن شرط حمل الجنسية اللبنانية ليس هو الفيصل، والأمر لا يشبه ما نراه في نظم ديموقراطية لجهة وجود أشخاص أو تكتلات “لوبي” قد يقدّمون العون لدول أخرى، لأن مجموعات الضغط تلك لا تسعى إلى فرض أجنداتها بقوة السلاح.
ما هي عملية الانتخاب، إن لم تكن إيصال مرشح ما إلى موقع المسؤولية؟ هذا ما فعله ويفعله الأسد في لبنان، وما فعله ويفعله الحزب في سوريا. وانطلاقاً مما يفعلان، يحق “نظرياً” لأي سوري أو لبناني فعل المثل، والمشاركة في الاقتراع على طرفي الحدود. إن نتيجة الانتخابات اللبنانية غداً لها، فوق تأثيرها المحلي، تأثير عليّ كسوري، إذ شتان بين حكومة موالية للأسد وأخرى مناهضة له. تعذر الاحتمال الثاني حالياً يزيد من الحاجة إلى الإقرار بهذا الحق، ما دام الحكم في دمشق مؤثراً بشدة على لبنان، وما دام الحكم في لبنان “كما آل إليه بسبب الحزب” مؤثراً على السوريين.
كان كاتب مستقبلي، هو الأمريكي ألفين توفلر، قد دعا يوماً إلى وجود كوتا في المجالس التشريعية بين الدول التي تربطها مصالح قوية، ويكون قرار أي منها ذا تأثير على الأخرى. وهناك دول غربية، قبل الصعود الأخير لموجات اليمين المتطرف، قد شرعت على صعيد مجتمعي وثقافي في مناقشة منح حق التصويت للاجئين فيها، بما أن البرامج السياسية للأحزاب والشخصيات تؤثر على معيشة اللاجئين مثلما توثر على حاملي الجنسية.
تستخدم هيئات لبنانية رسمية وشبه رسمية تعبير “النازحين السوريين” لتحاشي تعبير “اللاجئين السوريين”، ولاعتماد الثاني تبعات قانونية لا تريد الحكومة اللبنانية تحملها. لكن استخدام تعبير النازحين، وهو يحرمهم من حقوق اللجوء، يحيل من جهة أخرى إلى كونهم لم يتجاوزا حدوداً، ولم يلتجئوا من خطر نظامها إلى بلد آخر خارج الحدود. هذا المدلول يُضاف إلى مدلولات أخرى، أو بالأحرى إلى انتهاكات الحدود بين الجانبين، وما أشرنا إليه من نقاش حول إعطاء اللاجئين حق التصويت ينطبق على نحو أشد على النازحين وفق العلاقة “الخاصة” التي تربط بين سوريا ولبنان.
من المرجح أن تثير مطالبة سوري بأن ينتخب غداً استياء لبنانيين لسان حالهم الشعور بالتأفف من السوريين، والرغبة في التخلص منهم. الواقع شأن آخر، ومنه مساهمة الحزب بحربه السورية في زيادة عدد اللاجئين في لبنان، والأهم أن الاستقواء على بؤساء السوريين ووضعهم في الحجر أثناء الانتخابات يحدث مع بقاء الخط العسكري مفتوحاً على مصراعيه، حيث يحدث الاقتراع الحقيقي. المطالبة بالحق في الانتخاب غداً هي من أجل إغلاق الخط العسكري، ومن أجل أن يعود “النازحون” عبر الحدود المدنية إلى بلد لا يقترع فيه جنود الولي الفقيه بدلاً منهم، وعلى أجسادهم وأجساد أحبائهم.
عمر قدور _ المدن