لا تعني عبارة “المهم سلامتكن” شيئاً للسوريات، على العكس تكاد تكون بمثابة إعلان حرب تدور رحاها في القلوب المحروقة وكأن البيت قد تحطّم لتوه.
تصر على أنه صحن فنجان قهوتها الذي تحتفظ به من جهاز عرس أمها… أقسمت أنه فريد ووحيد وتخلو البيوت من مثيل له، لأنه بالأساس هدية عرس أمها من عمتها التي كانت تعيش في البرازيل، أي أنه عابر للحدود.
يبدو أنها أشعلت معركة خاسرة في مكان هي حلقته الأضعف… وحياتها الآن لا تساوي قيمة صحن زجاجي مهشم أو ملعقة طعام كساها الصدأ…
تستيقظ الذاكرة القريبة… وهي في الحقيقة الذاكرة الحاضرة والنازفة، ذاكرة أيقنت عبرها حالها حال سوريات كثيرات استحالة استعادة أي من متاع بيتها الذي استحال خرابة موحشة…
تذكر كيف فتحت جارتها في بيتها المستأجر حديثاً باب خزانة الصحون المرتبة بعناية فائقة والممدودة فوق قطع قماشية من الأغباني الدمشقي باللونين الأبيض الناصع والذهبي، فتحت الجارة خزانة ثروتها الغالية على القلب أكثر من الجيب وقالت لها: خذي منها كل ما تحتاجين! لكل طبق ذكرى وكل كأس محفوظة لها تاريخ شراء واسم بائع وقيمة حينها…
لكنها اكتفت بالبكاء والهرب من وطأة الذاكرة المثقلة بالحرمان والقسوة…
دأبت السوريات على اقتناء كميات كبيرة من الأثاث الزجاجي، أطقم كاملة بالنقشة ذاتها واللون ذاته… تنظف مرتين كل عام أو قبل الأعياد… تفرد للضيوف فقط أو في احتفالات العائلة كزواج الأبناء والبنات واستقبال أهل الصهر أو الكنة…
بكت السوريات متاعهن الزجاجي كفقيد غال لن يعود… إنها هدايا العرس أو الولادة أو أعياد الأم، كانت هذه الأغراض والأواني ثروة مادية وروحية وأيضاً عائلية.
ضاعت البيوت وتسربت دموعاً من مقل السوريات وغرقت القلوب في ضحالة التعبير عن العجز.
أصبحت رؤية أي طبق مماثل مناسبة لنعي البيت الذي لن يعود أبداً وإفراغ الحزن كشكوى لا تنتهي ولا تبرد نيرانها، ورجاء حار وعاجز بمعاقبة السارقين و”المعفشين”…
لا تعني عبارة “المهم سلامتكن” شيئاً للسوريات، على العكس تكاد تكون بمثابة إعلان حرب تدور رحاها في القلوب المحروقة وكأن البيت قد تحطّم لتوه.
قررت سيدة سلوك دروب الصمت المطبق بعدما خسرت منزلها، ذات يوم وجدت على عربة للملابس المستعملة جلابيتها البيتية الأحب إلى قلبها… سحبتها بصمت ومزّقتها بأسنانها ومشت…
لم تقبل أن تشتريها من جديد! مع أن شقيقتها أعادت شراء غسالتها الآلية من سارقيها، قررت تمزيق الجلابية وكأنها تمزق روابطها ببيتها، برائحة عرقها وروائح آخر وجبة طهتها هناك، وروائح لعاب ابنها على صدر الجلابية.
عندما تختار امرأة قطع الصلة مع الماضي عبر تحويل جلابيتها إلى مجرد قماش ممزق، فذلك يعني أنها أيقنت أن دروب الصمت والسكينة تمر عبر تقطيع أوصال ماضيها بأسنانها… هو ليس ماضياً وليس حاضراً… إنه طعنة في الروح لا تفيد معه كلمات الشكوى ولا صرخات الاستغاثة.
رفض البائع بيعها الصحن. كان مصراً على أنه جزء من دزينة كاملة ستخسر قيمتها إن أعطاها الصحن. صرخت به مؤكدة أنه صحن وحيد وأن فنجانه المكمل له إن وجد فستشتريه بأي مبلغ يطلبه…
أصرت على شرائه بعناد لا مثيل له، فيما كان يريدها أن ترحل وحسب… في كل كلمة كان يشعر وكأنها تقول له: أعد إلي أمي أيها اللص… أعد إلي زمني وذاكرتي وبيتي…
بحركة خاطفة سحب منها الطبق ورماه أرضاً وهرس البقايا الزجاجية بقدمه…
عبرت عن صدمتها بصرخة مدوية… أنت قاتل! وهوت أرضا كأعمدة بيتها.
سلوى زكزك _ درج