خمدت الضجة التي أثارها فرار “أبو علي خضر” قبل أقل من عشرين يوماً، ولا توجد أخبار عن ثلاثة مليارات دولار قيل أنه هرب بها! جانبٌ من الضجة اقترن أصلاً بتسليط الأضواء على ظاهرة “أبو علي خضر”، وهو شخص متواضع التعليم والمعرفة، انفتحت له مغارة “علي بابا الأسد” بعد ماضيه المهني العادي كبائع للفروج وسائق لميكروباص. وكان ظهور رامي مخلوف، على خلفية خلافه مع ابن عمته بشار، قد أثار ضجة أيضاً، إذ تبين أن أسطورة المال شخص ركيك، متواضع الإمكانيات إلى حد أثار سخرية واسعة على وسائل التواصل الاجتماعي.
السخرية ذاتها دأب على إثارتها سهيل الحسن الملقب بالنمر، وهو شغل لسنوات مضت مكانة الرمز العسكري الناجح لقوات الأسد. الهالة التي أُسبغت على الأداء العسكري للحسن لا تتناسب إطلاقاً مع أدائه اللغوي الركيك، والذي في الحد الأدنى لا يُنبئ بتركيز ذهني كافٍ. للحسن قرين في “مجلس الشعب” اسمه محمد قبنض، وهذا لمع نجم ركاكته في السنوات الأخيرة كدلالة على نوعية أعضاء مجلس الشعب، من دون نسيان كونه بات من أهم منتجي الدراما التلفزيونية، وهو يتهيأ لإنتاج مسلسل عن حياته الشخصية، ويُسجّل له “باعترافه” شراء قصر الملك إدوارد في بريطانيا بعدما دخل المزاد ظناً منه أنه يشتري قطعة أرض للزراعة.
الضجة في كل مرة، حيث الدهشة من انحطاط رجالات الأسد، إذا استثنينا إطلالات الأخير الذي لم يقصّر أيضاً في تقديم مادة دسمة للسخرية. هكذا تبدو سلطة الأسد أدنى مما هو متوقع، بل أدنى من الانحطاط المنتظر منها. وفي الدهشة مسافة لا تبدو قابلة للردم، إذ يصعب التأقلم مع كون المستوى المتدني من الانحطاط نتيجةً منطقية، ويصعب تالياً التأقلم مع كون مسيرته مستمرة وقد لا تلامس القعر، إن كان من قعر.
من الرائج، لدى نسبة راجحة من السوريين، مقارنة الانحطاط الحالي بعصر المؤسس حافظ الأسد، ليُستنتج أن الوريث لم يكن بكفاءة الأب. ثمة من يتحسر على الابن البكر باسل، ضمن المتخيَّل عن كفاءته الموروثة، ليظهر مقتله في حادث سير بأهمية موت أبيه. لكن مع التعريض بكفاءة الوريث الحالي يبقى مستفيداً من مهارة الأب المؤسس وآثارها المديدة، وهذا ما يبرر بقاء حكم العائلة أكثر من نصف قرن حتى الآن، إذ يصعب ضمن آليات التفكير الدارجة اقتران الانحطاط المعمم بالمقدرة على امتلاك السلطة.
مشكلة هذا التفكير، مع تفهم مبرراته، أنه قليل الانتباه إلى بنية السلطة، وإلى أطوارها وما تنطوي عليه كل مرحلة من آفاق أو ممكنات. وما تخلل حكمَ الأب من تغييرات يبدو شأناً من الشؤون المعتادة للسلطة، على الأقل بوصفها سلطة مستبد لا يفعل ما هو طارئ عن طبع المستبد إذ يعزز من سطوته، ويضحي برجالاته على مذبحها. يساهم في هذا الفهم الرائج لجوء حافظ الأسد منذ انقلابه إلى إقصاء الذين قد يشكلون خطراً على حكمه، ما يستتبع تلقائياً اعتماده على أشخاص يعوضون بالولاء قلةَ كفاءتهم.في منتصف الثمانينات أقصى حافظ الأسد شقيقه رفعت المتهم بمحاولة الانقلاب عليه، ثم عمد بالتدريج إلى تهميش شركائه في الانتصار على الإخوان المسلمين، ومنهم شركاء قدامى في انقلابه عام 1970. هكذا انتهت أمجاد ضباط كبار مثل علي حيدر وشفيق فياض وإبراهيم الصافي وسواهم، لأن مشروع توريث ابنه لا يحتمل وجودهم بقوتهم كقادة إقطاعيات عسكرية.
بالتزامن مع القضاء على انتفاضة الإخوان المسلمين، أجهز حافظ الأسد على بقايا البرجوازية المدينية التي كان قد استمال قسماً منها في بداية حكمه، متهماً إياها بدعم انتفاضة الإخوان. انعكس ذلك في التضييق التام على النشاط الاقتصادي، واحتكار “الدولة” نشاطات اقتصادية لم تكن سابقاً في صلب دورها. بخلاف أيام الشراكة السابقة، سيذهب ريع الاحتكار القديم والمستحدث إلى الأسد نفسه، فمع وفاة باسل الأسد سيكون هناك حديث لأول مرة عن ثروة طائلة مسجلة باسمه. لقد مضى الزمن الذي كان فيه رفعت الأسد رمز الفساد بالمقارنة مع أخيه الرئيس.
في منتصف الثمانينات، ومع بدء مشروع التوريث، مضى حافظ الأسد في الاستئثار بالسلطة والثروة معاً. التعبير الإعلامي عن الاحتكار أتى بإسباغ صفات عليه تقارب صفات الألوهية، وقاد حملة التأليه أشخاص ينظرون إلى أنفسهم “وهم كذلك حقاً” من موقع العبيد لا موقع الشريك، والإله كما هو معلوم لا شريك له. هذه الآلية تتكفل تلقائياً بطرد الكفاءات، ونعني بها حتى الكفاءات ضمن مفهوم السلطة وتركيبتها ذاتها، لأن الاحتكار المطلق لا يطرد فقط الكفاءات الخارجة عن السلطة، وإنما يطرد أيضاً الكفاءات الداخلية اللازمة أو الضرورية من أجل حياة السلطة نفسها، ومن أجل منع انحدارها إلى الحضيض.
بخلاف الشخصيات التي ورثها حكم حافظ الأسد من حقبة سابقة، ليس هناك شخصيات يُعتد بها “أو على الأقل ليست مبتذلة” يُحسب صعودها للأسد الأب أو الابن. ذلك كتبه حافظ الأسد بيده في النقلة الكبرى في منتصف الثمانينات، والأقرب إلى الواقع أنه “وهو يسوّي الأرض من أجله” كان بيديه يحفر قبر وريثه، حتى لو قيض لابنه باسل تسلم الرئاسة لا للوريث الحالي. والحديث بالطبع عن رجالات السلطة، والأمر قد يختلف بدرجات على مستوى ما يُسمى “مؤسسات حكومية” قد لا يخلو بعضها من الكفاءات اللازمة كحد أدنى، مع ضرورة التحفظ على كلمة “مؤسسة”.
الدعم الخارجي هو الذي أبقى سلطة الأسد التي شارفت على الانهيار مرات عديدة بعد الثورة، بينما بنيتها التسلطية الاحتكارية كان لا بد أن تودي بها. بمعنى أن الانحطاط هو ابن هذه البنية، الانحطاط الذي هو من مظاهر الانهيار بصرف النظر عن العوامل الخارجية التي تمنع حدوثه. والاستمرار في السلطة لطالما اقترن أيضاً بضعف المجتمع وتشتته، وهذا من دواعي انحطاطها أيضاً إذ تأمن ضغوط المجتمع عليها فلا تضطر إلى تجديد حيويتها.
ربما، إذا توخينا ما هو عقلاني، علينا ألا نستغرب من شركاء الأسد، أمثال “أبو علي خضر” ومحمد قبنض وسهيل النمر… إلخ. من يدري! قد يأتي وقت يبدو فيه هؤلاء أقل ركاكة وسفاهة بالمقارنة مع تلاميذ لهم ينشؤون الآن، ويرون في أسلافهم مثلاً أعلى.
عمر قدور _ المدن