تشهد المناطق الخاضعة لسيطرة “الإدارة الذاتية” شمال شرقي سوريا أحداثًا متسارعة ومتتالية على عدة أصعدة، قد تتحول إلى ملفات تضغط على “الإدارة” وجناحها العسكري “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد).
وتواجه السلطات الكردية في مناطق سيطرتها حالة من الفلتان الأمني، وبينما تحاصر “الفرقة الرابعة” الأحياء الخاضعة لنفوذها في مدينة حلب، تبادل “قسد” ذلك بحصار قواتها مناطق النظام في الحسكة، بالتزامن مع استهدافات تركية ومواجهات بين تنظيم “الدولة” وإيران في المنطقة.
إلى جانب هذه التطورات الأمنية والعسكرية، يعاني المواطنون في المنطقة، كبقية المناطق السورية، من ضغوطات اقتصادية وتردي الأوضاع المعيشية جراء إغلاق المعابر والتضخم والغلاء.
تناقش عنب بلدي في هذا الملف، أثر التوترات العسكرية والأمنية في شمال شرقي سوريا، والأزمة الاقتصادية والتقاربات السياسية، على سلوك “الإدارة الذاتية” مع حلفائها في المنطقة.
“قسد” إحدى أوراق الضغط
تركيا وأمريكا تطويان صفحة الخلافات
“تركيا شريك أمني مهم للولايات المتحدة، وهي حليف مهم في (حلف شمال الأطلسي) منذ عام 1952، كما أنها رائدة في مهمة الدعم الحازم للحلف، وتشارك في جهود مكثفة لهزيمة المنظمات الإرهابية داخل وخارج حدودها، بما فيها حزب العمال الكردستاني (PKK) وجبهة التحرير الشعبي الثوري (DHKP-C)، إضافة إلى تنظيم (الدولة الإسلامية)، إذ تسهم تركيا في الأمن الدولي إلى جانب القوات الأمريكية”.
هكذا تُعرّف الخارجية الأمريكية العلاقات بين أنقرة وواشنطن مع تأكيد الأخيرة التزام الحكومة التركية بالسياسات والإجراءات التي تبني ثقة الجمهور بالمؤسسات الديمقراطية في البلاد وسيادة القانون، فضلًا عن التمسك بالتزامات حقوق الإنسان.
وينعكس التقارب التركي- الأمريكي المحتمل بعد عدّة سنوات من الخلاف على ملفات عدّة، أبرزها قضية وجود “قسد” المسيطرة على مناطق شمال شرقي سوريا المتاخمة للحدود التركية، إذ ترى أنقرة أن “قسد” امتداد لحزب “العمال الكردستاني”، المحظور والمصنّف إرهابيًا في تركيا.
وشنّت تركيا مع “الجيش الوطني السوري” عمليتين عسكريتين على مناطق اتخذتها “قسد” نفوذًا لها، وهما “نبع السلام” شرق الفرات في 9 من تشرين الأول 2019، سيطرت خلالها على تل أبيض ورأس العين، وعملية “غصن الزيتون” عام 2018، وسيطر خلالها الجيش التركي على منطقة عفرين شمال غربي محافظة حلب.
ملامح التقارب بين واشنطن وأنقرة
أعلن وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، في 7 من نيسان الحالي، أنه سيلتقي نظيره الأمريكي، أنتوني بلينكن، في العاصمة واشنطن، في 18 من أيار المقبل، وهذه الدعوة الأولى منذ ثلاث سنوات بين عضوي حلف شمال الأطلسي (الناتو) اللذين اتخذا خطوات لتحسين العلاقات المتوترة منذ فترة طويلة.
وسبق إعلان جاويش أوغلو نشر الرئاسة التركية عرض ملفات إقليمية عدّة بين المتحدث باسم الرئاسة التركية، إبراهيم قالن، ومستشارة وزارة الخارجية الأمريكية المسؤولة عن الشؤون السياسية، فيكتوريا نولاند، إذ استعرضا مسائل أمن الطاقة، والتعاون الدفاعي، والعلاقات السياسية والاقتصادية الثنائية.
كما أعلنت الخارجية التركية، في 4 من نيسان الحالي، إطلاق “الآلية الاستراتيجية التركية- الأمريكية” في أنقرة، عملًا بالتفاهم الذي تم التوصل إليه خلال الاجتماع بين الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، ونظيره الأمريكي، جو بايدن، في تشرين الأول من عام 2021، بالعاصمة الإيطالية روما.
وطالب أردوغان، في اتصال هاتفي مع نظيره الأمريكي، جو بايدن، في آذار الماضي، برفع العقوبات عن بلاده قائلًا، “حان الوقت لرفع العقوبات الأمريكية غير العادلة على تركيا”.
وأفاد بأن تركيا تتطلّع إلى استجابة الولايات المتحدة في أقرب وقت لطلبها الذي يتضمّن شراء 40 طائرة جديدة، وتحديث طائرات “F-16″ الأمريكية في سلاح الجو التركي.
كما شكر بايدن نظيره التركي على جهود أنقرة في دعم الحل الدبلوماسي للحرب التي شنتها روسيا على أوكرانيا، وفق بيان للبيت الأبيض وصف فيه المحادثات بين الرئيسين بـ”البنّاءة”.
“قسد” في مرمى التقارب
يُعتبر حزب “الاتحاد الديمقراطي” (PYD) (الفرع السوري من حزب العمال الكردستاني) نواة “الإدارة الذاتية” لشمال شرقي سوريا، وهو مدعوم أمريكيًا.
وتمثل “وحدات حماية الشعب” (الكردية) (YPG) و”وحدات حماية المرأة” (YPJ) عماد القوات العسكرية التابعة لـ”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) (وهي الذراع العسكرية للإدارة الذاتية)، واعتمدت “الوحدات” على عناصر حزب “العمال الكُردستاني” (PKK) في التدريب الفكري والعسكري.
وتصنّف تركيا “قسد”، التي تشكّل “وحدات حماية الشعب” عمودها الفقري، على قائمة الكيانات الإرهابية.
وتعتبر أنقرة “الوحدات” التابعة لحزب “الاتحاد الديمقراطي” امتدادًا لحزب “العمال الكردستاني” المصنّف على قوائم “الإرهاب” عالميًا، والمتّهم بتنفيذ عمليات تفجير واغتيالات في تركيا والعالم.
ولا يمر حديث المسؤولين الأتراك حول علاقاتهم مع واشنطن دون إثارة قضية دعمها الكرد في سوريا، بينما ترى واشنطن أن دعمها لـ”قسد” هو في إطار محاربة تنظيم “الدولة الإسلامية”.
وأكد وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، عند إعلانه اللقاء مع نظيره الأمريكي المرتقب في أيار المقبل، أن “أنقرة مستاءة من بعض تصرفات واشنطن، خاصة دعمها (قسد) شمالي سوريا”.
وحول انعكاس التقارب التركي- الأمريكي المحتمل على شمال شرقي سوريا، قال الباحث المختص بشؤون شرق الفرات في سوريا بدر ملا رشيد، في حديث إلى عنب بلدي، إن أي تقارب بين الدول الإقليمية والعالمية يؤثر على الفواعل ما دون الدولة، وهو ما شهدته الحالة السورية بشكل مكرر جدًا، سواء كان التقارب الروسي- التركي، أو الأمريكي- التركي، وحتى الروسي- الأمريكي في مرحلة إنهاء الثورة منتصف العام 2015.
وهو بشكل أو بآخر يعني أن واقع “قسد” و”الإدارة الذاتية” سيتأثر بأي تفاهمات أمريكية- تركية جديدة، ومع ذلك ستكون الكثير من التفاهمات في ظل توافقات عام 2019، من تنفيذ ابتعاد “قسد” عن الحدود التركية لمسافة تقارب 30 كيلومترًا، بالإضافة إلى ضغوط تتعلق بضرورة إخراج عناصر حزب “العمال” من شرق الفرات، وفق ملا رشيد.
وكان الرئيسان التركي والروسي أبرما اتفاقية، في 22 من تشرين الأول من عام 2019، في مدينة سوتشي، بشأن مناطق شمال شرقي سوريا.
ونصت الاتفاقية على سحب كل القوات الكردية من الشريط الحدودي لسوريا بشكل كامل، بعمق 30 كيلومترًا، إضافة إلى سحب أسلحتها من منبج وتل رفعت.
وقضت أيضًا بتسيير دوريات تركية روسية بعمق عشرة كيلومترات على طول الحدود، باستثناء القامشلي، مع الإبقاء على الوضع ما بين مدينتي تل أبيض ورأس العين.
وفسحت الاتفاقية المجال أمام قوات النظام السوري للدخول إلى مناطق شرق الفرات للمرة الأولى منذ عام 2012، ضمن تفاهمات مع “قسد”، وبالتزامن مع بدء الانسحاب الأمريكي من سوريا.
يتمثّل الارتباط الرئيس بين حزب “العمال الكردستاني” و”وحدات حماية الشعب” (الذراع العسكرية لحزب “الاتحاد الديمقراطي” عماد “قسد”) بأنه تم الاعتماد على “العمال الكردستاني” لبناء وتقوية تشكيلاته العسكرية، مثل “خبات ديريك، جان بولات، شاهين جيلو، إلهام أحمد، وآلدار خليل” وغيرهم الكثير، فساعدتهم هذه الخبرة في تحديد الأهداف ورسم الخطط للسيطرة على المدن وتجنيد الشباب وتدريبهم، وهو ما لم يكن في متناول بقية الأحزاب الكردية، وفق ورقة بحثية صادرة عن مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية” بعنوان “البنى العسكرية والأمنية في مناطق الإدارة الذاتية“. |
هل يمكن أن تغيّر الولايات المتحدة من شكل دعمها للكرد
تحاول الولايات المتحدة القيام بخطوات من شأنها إرضاء الجانب التركي منذ عام 2016، مع شنّ تركيا عملية “درع الفرات” ولاحقًا “غصن الزيتون”، وآخرها “نبع السلام” عام 2018، وجميع هذه العمليات العسكرية حدثت بناء على ضغط تركي وتوافقات دولية كان للولايات المتحدة دور رئيس فيها، حسب ملا رشيد.
وأضاف الباحث أن هناك أهدافًا استراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة في سوريا، وهي محاربة تنظيم “الدولة”، وإبقاء الضغط على النظام السوري، متوقعًا أن من الممكن أن يزداد الضغط الأمريكي على “قسد” بحيث تخطو خطوات تجاه القوى الممثلة للمعارضين للنظام السوري سواء “الائتلاف الوطني” أو “المجلس الوطني الكردي”.
بدوره، يرى الباحث في الشأن التركي والعلاقات الدولية محمود علوش، أن إدارة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، اتخذت نهجًا مختلفًا عن الرئيس السابق، دونالد ترامب، في مسألة دعم “قسد” وأعادت إحياء العلاقة الوثيقة معها.
وهذه القضية تمثّل أولوية بالنسبة لتركيا، وستسعى للضغط على واشنطن لتغيير سياستها إزاء “الوحدات الكردية”، إذ لن يكون بالإمكان توقع عودة طبيعية للعلاقات التركية- الأمريكية دون معالجة هذه القضية، حسب علوش.
ورغم دعم واشنطن لـ”قسد” الآن، فإنها تغض النظر بعض الشيء عن الضربات التركية بين الحين والآخر ضد “الوحدات الكردية” في سوريا، بحسب علوش الذي اعتبر أن الأمريكيين لم يعودوا ملتزمين بالكامل في هذه القضية ولديهم أولويات أخرى، وهو الأمر الذي قد يتيح لأنقرة فرصة لانتزاع تنازلات من الأمريكيين بهذا الخصوص.
ومع ذلك، فإن “الوحدات الكردية” لديها علاقات أخرى مع روسيا التي أصبحت لاعبًا رئيسًا في هذه المسألة، فإذا ما تخلت أمريكا عن “الوحدات”، فإنها ستصبح أكثر اعتمادًا على موسكو، وفق علوش.
حوار معطّل بين كرد سوريا يباعد التقارب
بدأ الحوار الكردي- الكردي بمبادرة أطلقها قائد “قسد”، مظلوم عبدي، بعد العملية التركية “نبع السلام” شرق الفرات، في تشرين الأول 2019، وإعلان الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، قرار انسحاب بلاده من بعض قواعدها في سوريا.
قطبا الحوار الرئيسان هما حزب “الاتحاد الديمقراطي” الذي يشكّل نواة “الإدارة الذاتية” والمدعوم أمريكيًا، و”المجلس الوطني الكردي” المقرب من أنقرة وكردستان العراق والمنضوي في هيئات المعارضة السورية، والذي سبق أن أُغلقت مكاتبه واُعتقل عدد من أعضائه وطُردت ذراعه العسكرية من المنطقة.
وانطلق الحوار الكردي- الكردي في تشرين الأول من عام 2019، ووصل إلى طريق مسدود في تشرين الأول من 2020، وسط اتهامات متبادلة بين أطراف الحوار حول التعطيل.
وفي 17 من كانون الأول من عام 2021، أصدر “الوطني الكردي” بيانًا حول اجتماعه مع نائب المبعوث الأمريكي الجديد إلى شمال شرقي سوريا، ماثيو بيرل، وسلفه ديفيد برونشتاين.
وقال البيان، إن الوفد الأمريكي أكد دعم الحوار الكردي- الكردي في سوريا، وضرورة “حل الخلافات بين (المجلس الوطني الكردي) وأحزاب الوحدة الوطنية الكردية”، مؤكدًا أهمية المجلس في العملية السياسية للوضع القائم في سوريا.
وفي بيان إحاطة أصدره “الوطني الكردي”، في 11 من نيسان الحالي، طالب فيه حزب “الاتحاد الديمقراطي” باستئناف المفاوضات “المتوقفة منذ أمد طويل”، ووقف الحملات الإعلامية ضد “المجلس الكردي” وأحزابه وحلفائه.
ومن الممكن أن يكون للتوافق الكردي- الكردي دور في تخفيف الضغوط التركية على الولايات المتحدة، إذ تسعى تركيا إلى إنهاء وجود حزب “الاتحاد الديمقراطي” واعتبار المنطقة واقعة تحت سيطرة غريمها الكردي السوري، وسيمنح إشراك قوى سياسية كردية، كـ”المجلس الوطني الكردي”، واشنطن موقفًا أفضل للرد على المزاعم والتهديدات التركية المتواصلة، وفق تحليل مختصين تحدثوا سابقًا لعنب بلدي في ملف “تقارب كردي– كردي يرسم خريطة تحالفات جديدة“.
وتحاول الولايات المتحدة إعادة إحياء الحوارات الكردية، لكن حتى الآن هناك تعنّت من جانب “الإدارة الذاتية”، ويتعلّق الأمر بالأخص بموضوع إخراج عناصر “العمال الكردستاني” الموجودين في المنطقة وهم بعدة مئات مثلما ذكر قائد “قسد”، مظلوم عبدي، في إحدى مقابلاته، بحسب ما أشار إليه الباحث في الشؤون الكردية بدر ملا رشيد، في حديثه لعنب بلدي.
وأردف الباحث أن “المجلس الوطني الكردي” يرى بأن بقاء عناصر حزب “العمال” المجهولي الهوية في المنطقة لن يؤدي إلى نجاح أي اتفاق بين الجانبين.
كما لا يمكن توقّع أن يكون النموذج المستقبلي في المنطقة مشابهًا لحالة كردستان العراق، سواء نتيجة الأسباب الخاصة بطبيعة حزب “الاتحاد الديمقراطي”، الذي يرفض قيام أي كيانات قومية وفق “ديباجاته الحزبية”، بالإضافة إلى أسباب تتعلق بالواقع الديموغرافي الذي تغيّر بشكل كبير بعد الثورة، نتيجة هجرة مئات الألوف من سكان المنطقة للخارج، ويبقى النموذج المطروح حاليًا من قبل الكثير من المراكز البحثية والأطراف المنخرطة بالشأن السوري والمتمحور حول “الإدارات اللامركزية الجغرافية”، هو القابل للطرح في حال حدث اتفاق كردي- كردي، ولاحقًا اتفاق مع قوى المعارضة السورية، وفق بدر ملا رشيد.
أما من وجهة النظر التركية، فيرى الباحث في الشأن التركي محمود علوش، أنه ليس لدى تركيا مشكلة مع الكرد، بل مع “الوحدات الكردية” التي لديها صلة وثيقة بحزب “العمال الكردستاني”، والأمريكيون أيضًا يدركون ذلك تمامًا، إذ لا يمكن أن نتحدث عن أي حل قبل معالجة الجوانب الأمنية لهذه المسألة، وإذا ما رغب الأمريكيون بلعب دور إيجابي، فيمكنهم الدفع بهذا الاتجاه.
فشل اقتصادي.. عامل قلق
منذ تأسيسها عام 2014، فرضت “الإدارة الذاتية” سيطرتها على القطاعات الاقتصادية والمالية في مناطق شمال شرقي سوريا إلى جانب سيطرتها في المجالين الأمني والعسكري، واستحوذت على إدارة موارد المنطقة من نفط وثروات زراعية ومائية.
ولأجل هذه الغاية، أسست “الإدارة” ست جهات تُعنى بالشأن الاقتصادي في المنطقة، إلا أن الوضع المعيشي والاقتصادي في مناطق سيطرتها لا يختلف عن بقية المناطق السورية.
وتتشارك الجزيرة السورية التي تضم أهم الموارد الاقتصادية في سوريا مع المناطق الشمالية الغربية الخاضعة لنفوذ فصائل المعارضة وتركيا وبقية المناطق الخاضعة لسيطرة النظام السوري بسوء الحال المعيشية للسكان وترديها.
تشهد أسواق شمال شرقي سوريا موجة غلاء تشمل معظم المواد الأساسية، وفي مقدمتها البقوليات والحبوب والزيوت النباتية وبعض أنواع المعلبات المستوردة، ترافقها حالة من الاستياء العام لدى السكان.
برزت هذه الموجة من عدة عوامل، أبرزها “الغزو” الروسي لأوكرانيا، وإغلاق كردستان العراق المعابر الحدودية التي تعد شريان الحياة للمنطقة أمام الحركة التجارية، وانخفاض قيمة الليرة السورية أمام العملات الأجنبية.
الارتفاع في المستوى العام للأسعار، وعدم كفاية المستحقات من مادتي المازوت والخبز، وانقطاع المياه عن بعض المناطق، شكّل حالة من الغليان لدى سكان ريفي الحسكة ودير الزور ترجموها إلى احتجاجات تطالب “الإدارة الذاتية” بأداء واجباتها ومنحهم حقوقهم.
دفعت هذه الاحتجاجات مسؤولين في “الإدارة الذاتية” لإطلاق الوعود بتحسين الوضع المعيشي وتدارك الأزمة الاقتصادية، والحديث عن نقاشات وحلول وقرارات سيتم البت بها قريبًا.
وفي تصريحات لصحيفة “الشرق الأوسط”، في 10 من نيسان الحالي، أوضح نائب رئيس المجلس التنفيذي لـ”الإدارة الذاتية”، حسن كوجر، أن “الإدارة” اتخذت سلسلة قرارات وخطوات بهدف تحقيق الاكتفاء الذاتي في المناطق الخاضعة لنفوذها.
وستعمل “الإدارة” على دعم قطاع الزراعة الحيوي، وزيادة أجور العاملين في مؤسساتها ودوائرها، إلى جانب دعم مادة الطحين والخبز، للحد من انعكاسات الأزمة الاقتصادية والغذائية التي تعاني منها سوريا عمومًا، ومناطق شرق الفرات خصوصًا، جراء تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا.
خريطة نفوذ متداخلة تحكمها الاضطرابات
تشكّل مناطق شمال شرقي سوريا التي تتداخل فيها القوات المحلية والأجنبية نموذجًا مصغّرًا للصراع الممتد على الخارطة السورية بين قوات أجنبية وأذرعها من قوات وفصائل محلية.
وتتداخل مناطق النفوذ في بعض أحياء مدن وبلدات الجزيرة السورية بشكل كبير، لتضم قوات عسكرية من مجموعتين متصارعتين في منطقة ومختلفتين في منطقة أخرى في الظروف العسكرية التي تفرض تحالفات مصلحية ضد قوات أجنبية أخرى.
كما هي الحال في مدينتي القامشلي والحسكة التي تتشارك فيهما قوات النظام و”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) النفوذ فيهما، في حين تتوتر هذه التحالفات بين الحين والآخر لتصل إلى مواجهات مسلحة.
وتفرض مخاطر عمل عسكري تركي ضد “قسد” وجودًا عسكريًا لقوات النظام وروسيا بشكل متداخل في مناطق نفوذ “قسد” ضمن تحالفات عسكرية.
في المقابل، تعتبر القواعد العسكرية الأمريكية مرآة لأي نوع من التصعيد الذي قد تشهده المنطقة أو الخلافات الدولية، التي قد تكون بين إيران وأمريكا أو روسيا وأمريكا، والتي تتجلى بصدامات ناعمة بين الأمريكيين والروس أو الميليشيات التابعة لهم، وبين الأمريكيين والميليشيات التابعة لإيران.
الحصار بالحصار
عادت الأحياء التي تسيطر عليها “قسد” خلال الأيام القليلة الماضية إلى الواجهة بعد الحصار الذي فرضته قوات النظام على أحياء الشيخ مقصود، والشهباء، والأشرفيه في مدينة حلب، إذ منعت دخول مواد أساسية كالطحين والمواد الغذائية.
قابلت “قسد” هذا الحصار بفرض حصار على مناطق نفوذ النظام السوري في الحسكة والقامشلي، تمثّل بمنع دخول وخروج الآليات منها وإليها حتى رفع النظام حصاره عن الأحياء الكردية في حلب.
الصحفي السوري والباحث السياسي فراس علاوي، أوضح أن هذه التوترات الأمنية بين النظام و”قسد” ليست جديدة، وهي عبارة عن رسائل بين الطرفين إما في حالة التفاوض وإما في حالة الافتراق.
وقال إن التوترات تُستخدم في حالة التفاوض لرفع مستواه وحمولة طاولة المفاوضات بين الطرفين، وفي حالة الافتراق تكون محاولة للضغط لفرض أمر واقع من كلا الطرفين.
ولفت إلى أن منطقة النفوذ الأكبر في القامشلي لـ”قسد”، لذلك تحاول الضغط على النظام في هذه المنطقة، وهذا سبب التوتر الحالي، لكنه أمر ليس بجديد، وفي كل مرة يصل الطرفان إلى مرحلة التهدئة فيما بعد.
“قسد” والنظام مختلفان.. لماذا؟
يعود حصار قوات النظام للأحياء الكردية في مدينة حلب إلى تراكم الخلافات وتضارب المصالح، بحسب دراسة أعدها مركز “جسور للدراسات”، في 12 من نيسان الحالي.
وتتمثّل هذه الخلافات في استمرار رفض “قسد” إخلاء المباني التعليمية لجامعة “الفرات” التابعة لحكومة النظام في محيط سجن “الصناعة” بمدينة الحسكة منذ سيطرتها عليها بعد حملة التمشيط التي قامت بها عقب هجوم تنظيم “الدولة الإسلامية” على السجن في شباط الماضي.
الأمر الذي يُهدّد استمرار قدرة النظام على إدارة ملف خدميّ آخر في المحافظة، وهو ملف التعليم العالي الذي يحتكره ويستخدمه كأداة لإظهار استمرار سيادته وقدرته على تقديم الخدمات، بحسب الدراسة.
واعتبرت الدراسة أن افتعال التصعيد من قبل “قسد” وتأجيجه لاحقًا، هو ردّ على تزايد نشاط وتهديد الميليشيات التابعة لإيران لمصالح وقوات التحالف الدولي في محافظتي الحسكة ودير الزور، من خلال استهداف القواعد العسكرية التابعة لها من قبل هذه الميليشيات، إضافة إلى عمليات الاعتراض المتزايدة بشكل واضح للدوريات العسكرية الأمريكية من قبل قوات النظام وميليشيا “الدفاع الوطني” خاصة في محيط مدينة القامشلي.
في المقابل، يمنع عناصر “الفرقة الرابعة” المتمركزون بمحيط حي الشيخ مقصود الخاضع لنفوذ “الإدارة” في مدينة حلب، دخول السيارات المحمّلة بمادة الطحين إلى أفران الحي، بالتزامن مع أزمة معيشية تعاني منها المنطقة.
وتخضع هذه المنطقة لسيطرة “قسد” في مدينة حلب، بعد حملات عسكرية عدة شنتها تركيا باتجاه مناطق نفوذ “الإدارة الذاتية” شمالي المحافظة، أفضت إلى حسر نفوذها إلى أحياء صغيرة من مدينة حلب، وعدد من قرى ريف حلب الشمالي.
تركيا تسعى لتغيير قواعد الاشتباك
منذ مطلع نيسان الحالي، صعّدت القوات التركية من ضرباتها الجوية بالطيران المسيّر في شمال شرقي سوريا ضد وقوات “قسد”، بالتزامن مع تراجع معدّل الدوريات المشتركة “الروسية- التركية” في المنطقة من خمس دوريات شهريًا إلى ثلاث، والتي تسيّر في المنطقة من أكثر من ثلاثة أعوام بموجب اتفاق “سوتشي” الموقع عام 2019.
بالمقابل، ردّت روسيا على التصعيد التركي بشنّ هجمات جوية وصاروخية على عدّة مواقع في إدلب، لكن فصائل المعارضة المسلّحة والقوات التركية سُرعان ما نفّذت حملة قصف مدفعي وصاروخي على معسكر “جورين”.
واعتبرت الدراسة الصادرة عن مركز “جسور للدراسات“، أن التصعيد محاولة تركية تحاول إظهار الاستعداد لمواجهة أي ضغوط عسكرية من قبل روسيا التي تراجعت قدرتها بشكل ملحوظ شمال شرقي سوريا.
وأشارت الدراسة إلى أن تصعيد تركيا “غير المسبوق” والمستمر في شرق الفرات يهدف إلى “اختبار ردّ فعل روسيا والولايات المتحدة”، وسَبْر إمكانية تغيير قواعد الاشتباك في شمالي سوريا، أي محاولة استخدام القوة العسكرية لإعادة تحديد آلية العمل المشترك بحيث يكون لتركيا الدور الأكبر في أدوات المراقبة والتنفيذ.
ويرى الباحث السياسي فراس علاوي، أن هدف تركيا الأساسي من العمليات العسكرية والتوغل في سوريا منع قيام دويلة كردية مدعومة من حزب “العمال الكردستاني”، وبالتالي منع تشكيل “كانتون” كردي في المنطقة، وهذا كان واضحًا في العمليات العسكرية التي هدفت إلى تقطيع أوصال نفوذ “قسد” في المنطقة.
ولا يرى الباحث، في حديثه إلى عنب بلدي، أن تركيا ستدخل مناطق النفوذ الأمريكي (المناطق التي تسيطر عليها “قسد” بدعم أمريكي) أو تؤثر عليها.
لكن زيادة الاستهدافات التركية هي عملية إقلاق لوجود “قسد” حاليًا، وبالتالي فرض شروط عليها في حال حصلت هناك يومًا ما مفاوضات بين الطرفين، مشيرًا إلى أن الأمريكيين حاولوا أكثر من مرة الوصول إلى مفاوضات بين “قسد” والأتراك.
ولا يعتقد الباحث بوجود أي تفاهمات بين “قسد” وتركيا إلا في حالة واحدة، هي تفكيك “قسد” وإعادة تشكيلها مجددًا، وانفكاكها عن التبعية لحزب “العمال” والأحزاب الانفصالية الأخرى المعادية لتركيا.
ويرى علاوي أن هذا صعب بالنسبة لـ”قسد” على الأقل في الوقت الحالي، لكن ربما إذا ضعُفت “قسد” في المنطقة أو تخلى عنها الأمريكيون أو حاولوا الضغط عليها بشكل أو بآخر، سنشهد هذا الانفكاك كما حدث مع “هيئة تحرير الشام” حين انفصلت عن تنظيم “القاعدة”.
ولفت الباحث إلى أن المنطقة بشكل عام تتجه إلى تثبيت مناطق النفوذ، وليس التصعيد بشكل أو بآخر، وإذا غاب الدور الروسي يحاول الأتراك الاستفادة من وجود روسيا في بعض المناطق والسيطرة عليها أو حتى إطلاقها.
إيران قد تسهل عبور مقاتلي تنظيم “الدولة”
ربما قد ينعكس أي توتر في ميزان القوى بالمناطق الشرقية من سوريا على نشاط الخلايا التابعة لتنظيم “الدولة الإسلامية”، في حال انشغلت الأطراف التي تُصدّر نفسها على أنها موجودة في المنطقة لقتال التنظيم المصنّف على قوائم الإرهاب الدولية.
ومنذ مطلع نيسان الحالي، تصاعد نشاط خلايا “التنظيم” بشكل ملحوظ في ريف دير الزور، ووصل إلى عملية إحراق أحد المحققين التابعين لـ”قسد”، رغم أن عمليات التنظيم اقتصرت خلال السنوات الماضية على استهدافات بالرصاص المباشر، عبر عناصر تابعين له يستقلون دراجات نارية.
ويبقى موقف إيران من هذا التصعيد مثيرًا للتساؤل، إذ تقوم أذرعها في المنطقة المتمثلة بميليشيات موالية لها بدور فيه عبر قصفها قواعد أمريكية في المنطقة، إذ تعرضت قاعدة “حقل العمر” الأمريكية لقصف صاروخي، في 6 من نيسان الحالي.
لم تعلن قوات التحالف الدولي، الذي تقوده واشنطن، عن المتورطين بالهجوم حتى اليوم، بينما قالت شبكات محلية رصدت القصف، إن مصدره القوات الموالية لإيران شرقي دير الزور.
وقال التحالف الدولي في بيان، عبر حسابه في “تويتر“، إن قاعدة “القرية الخضراء” بالقرب من أكبر حقول النفط في سوريا، والتي يطلق عليها “العمر” في محافظة دير الزور الشرقية، استُهدفت بصاروخين، ما أدى إلى إصابة أربعة من القوات الأمريكية الموجودة في المنطقة.
وتعرضت القوات الأمريكية لإطلاق صواريخ في نفس المنطقة عام 2021، واقتصر رد التحالف فيما يبدو على الضربات الجوية الأمريكية ضد الفصائل المتحالفة مع إيران في سوريا والعراق.
وتتركز الميليشيات المدعومة من إيران بشكل كبير غرب نهر “الفرات” في محافظة دير الزور، حيث تحصل على الإمدادات من العراق عبر معبر “البوكمال” الحدودي.
وحول هذا السياق، رجح الباحث السياسي في مركز “جسور” أنس شواخ، أن تعمد إيران إلى تسهيل عبور عناصر وخلايا تنظيم “الدولة” من مناطق البادية شرقي سوريا، لتشكيل خطر إضافي على قواعد التحالف و”قسد” في مناطق انتشارها شرق الفرات.
التصعيد يسلّط الضوء على أهمية روسيا
بالنظر إلى العملية العسكرية الروسية القائمة في أوكرانيا، فإن دخولها في تصعيد عسكري أو سياسي جديد في سوريا قد يعتبر أمرًا مستبعدًا، بحسب الباحث شواخ، إلا أنه قد يصب في مصلحتها.
واعتبر شواخ أن التصعيد في المنطقة سيسلّط الضوء على أهمية روسيا كـ”ضابط أو منظم للوجود الإيراني في سوريا”.
وسبق أن برز الدور الروسي في ضبط السلوك الإيراني بالجنوب السوري بموجب اتفاقيات دولية عُرفت محليًا باتفاق “التسوية” الذي أفضى إلى سيطرة قوات النظام وروسيا على الجنوب السوري بالكامل عام 2018، مقابل سحب إيران ميليشياتها المحلية من المناطق المحاذية للحدود الأردنية والإسرائيلية مع سوريا.
لكن في النهاية، لم يستبعد شواخ أن تشهد مناطق شرق الفرات مواجهات أو صدامات عسكرية بين ميليشيات موالية لإيران و”قسد” المدعومة أمريكيًا كنتيجة للتصعيد الحالي.
لكن مثل هذا النوع من الصدامات أو المواجهات لا يمكن أن يتجاوز مرحلة المواجهات المؤقتة على نطاق ضيق بين ميليشيات معينة كـ”الدفاع الوطني” أو “الفرقة الرابعة” المدعومتين إيرانيًا و”قسد” من جهة أخرى، بحسب الباحث.
من جهة أخرى، أرجع شواخ عدم وجود احتمالية تحوّل هذا التوتر بين هذه الميليشيات إلى حرب شاملة، إلى العلاقة الجيدة الموجودة بين حزب “العمال الكردستاني” الذي يعتبر أحد أعمدة “قسد” من جهة والميليشيات الإيرانية الموجودة في سوريا.
وكانت الحدود السورية- العراقية، سواء مدينة القائم أو البوكمال في ريف دير الزور، تعرضت لقصف متكرر خلال عام 2021، في خطوة جاءت لكبح أذرع إيران في المنطقة من قبل الإدارة الأمريكية وحليفتها إسرائيل.
وحذر “البنتاغون” حينها من “عواقب وخيمة” إذا استمرت إيران بتسليح وتمويل ميليشيات تهاجم قواتها في سوريا والعراق، وشدد على أن الضربات الجوية التي استهدفت “منشآت لشبكة ميليشيات مسؤولة عن سلسلة من الهجمات سوف تقوّض قدرات الميليشيات وتردع هجمات إضافية”.
وسبق أن هاجم مقاتلو مرتزقة “فاغنر” الروس وميليشيات موالية لإيران برفقة قوات النظام موقعًا تسيطر عليه “قسد” شرقي دير الزور عام 2018، وقصفوه بالدبابات والمدفعية.
وبسبب وجود القوات الخاصة الأمريكية في الموقع، تدخّل سلاح الجو الأمريكي وسلاح مشاة البحرية، “بقوة نيران ساحقة” من المدفعية الصاروخية والطائرات الحربية والمروحيات الهجومية والمقاتلات الضاربة، وحتى القاذفات الاستراتيجية من طراز “B-52” شاركت بعملية القصف.
ولم يتضح بالضبط عدد القتلى في صفوف القوات الروسية خلال القصف الأمريكي حينها، الأمر الذي يعود إلى تكتّم الحكومة الروسية بشأن الجثث وإعادتها إلى روسيا.
إلا أن مسؤولًا أمريكيًا، رفض ذكر اسمه، قال لوكالة “رويترز”، إن قرابة 500 من القوات الموالية للأسد قتلوا في الهجوم المضاد الذي شنته قوات التحالف في دير الزور.
زينب مصري و أمل رنتيسي وخالد جرعتلي _ عنب بلدي